الإسراء والمعراج
الإسراء والمعراج
الحمدُ لله مُكَوِّنِ الأكوانِ، الموجودِ أزلا وأبدًا بلا مكان، الذي أيَّدَ سيدنا محمدًا بالمعجزاتِ الباهرة، والدلالاتِ الظاهرة والآياتِ القاهرة.
نحْمَدُهُ سبحانَهُ وتعالى أنْ جعلَ هذا النَّبِيَّ الكريمَ أجملَ الأنبياءِ شريعةً وأكثرهم معجزاتٍ وأعظمهم دلائلَ وأوضحهم ءاياتٍ وأجمَلهم خَلْقًا وخُلُقًا، وأفضلَهم رِفعةً لديهِ ومنزلة، وأعلاهم في الدنيا والآخرة، فكانَ أفضلَ الأنبياءِ والمرسلينَ ورسولاً إلى كافةِ العالمين.
وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله الواحدُ الأحد، الفرْدُ الصَّمد الذي لم يلِدْ ولم يولد ولم يكُنْ لهُ كُفوًا أحد.
وأشهدُ أنَّ سيدنا مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُه ونبيُّهُ المصطفى وَرَسُولُهُ المجتبى وحبيبُهُ المرتضى ومُختارهُ من أهلِ الأرضِ والسماءِ، اللهمَّ فصلِّ وسلِّم وباركْ على هذا النبيّ الكريم وعلى ءالِهِ الطاهرين وصحابتهِ الطيِّبين، وأتباعهِ وأتباعِ الأتباعِ ومن تبعهم إلى يومِ الدين.
أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله العظيم والسير على خُطى رسولِهِ الكريم، يقولُ الله تباركَ وتعالى في القرءانِ الكريم: }سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{ [سورة الإسراء].
إخوةَ الإيمانِ: تمُرُّ علينا في هذا الشهرِ الكريم ذكرى الإسراءِ والمعراج، فإنَّها مناسبةٌ ساميةٌ لذكرى راقيةٍ يُحتفَلُ بها لعظيمِ مدلولها وجلالِ قدرها، كيف لا وهي معجزةٌ كبرى خُصَّ بها محمَّدُ بنُ عبدِ الله النبيُّ الأميُّ العربي الأمين، خاتمُ الأنبياءِ وأوْفى الأوفياءِ، فكانَ إسراؤهُ من مكةَ المكرَّمةِ للأقصى الشريفِ، ومعراجُهُ إلى السمـوات العُلَا، ورجوعُهُ يُخبِرُ أهلَ الأرضِ عمَّا رأى من أهلِ السَّماءِ، ويصفُ لهم الأقصى نافذةً نافذة، دليلا قاطعًا وبرهانًا ساطعًا على صِدْقِ دعوتِهِ وحقّيةِ نبوَّتِهِ.
ثبتَ الإسراءُ بنصِّ القرءانِ والأحاديثِ الصَّحيحةِ، فيجبُ الإيمانُ بهِ وأَنَهُ أسرى الله بهِ ليلا من مكةَ المكرَّمةِ إلى المسجِدِ الأقصى، وأهلُ الحقِّ من سلَفٍ ومُحدِّثينَ ومُتكَلِّمينَ ومفسِّرينَ وفقهاءَ وعلماءَ مُجمعونَ على أنَّ الإسراءَ والمعراجَ كانَ بجسَدِهِ وروحِهِ، وهذا هو الحقُّ، وهو قوْلُ ابن عبَّاسٍ وجابرٍ وأنَسٍ وعمرَ وحُذَيْفَة وغيرِهم من الصَّحابَةِ، وهو قوْلُ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ وغيرِهِ من الأئمَّةِ، وهو قوْلُ الطبريِّ وغيرِهِ من المفسِّرينَ.
وإنْ كانَ إسراؤهُ بجسَدِهِ وروحِهِ وفي اليقظةِ فهذا ليسَ بعزيزٍ على الله؛ لأنَّ الله على كلّ شىءٍ قدير. فاعلموا إخوةَ الإيمانِ أنَّهُ لا خلافَ في الإسراءِ برسولِ الله، إذْ فيهِ نصٌّ صريحٌ قرءانِيٌّ لذلكَ قالَ العُلماءُ: "إنَّ من أنكَرَ الإسراءَ فقد كذَّبَ القرءانَ، والذي يُكذِّبُ القرءانَ لا يكونُ من المسلمينَ، وعليهِ الرُّجوعُ إلى الإسلامِ بالنطقِ بالشهادتينِ بقول أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ الله".
في بيتِ أُمِّ هانِئ ـ وهي شقيقَةُ عليّ بنِ أبي طالبٍ رضِيَ الله عنهُ ـ كانَ الرسولُ نائمًا مع عمِّهِ حمزةَ وابنِ عمِّهِ جعفرٍ رضي الله عنهما، هناكَ شُقَّ صدرُهُ شَقًّا حقيقيًّا، ولكنْ لم تحصُلْ لديهِ ءالامٌ كالتي تحصُلُ لمن تُجرى لهُ العمليَّاتُ الجراحيَّةُ عادةً، غُسِلَ قلبُهُ ومُلئ حكمةً وإيمانًا حتى يتهيأ لمشاهدةِ عجائبِ خلْقِ الله بقلْبٍ قويٍّ، وكانَ قد شُقَّ صدرُهُ قبلَ ذلكَ حينَ كانَ ابنَ سنتينِ، وعندَ البعثِ في أوَّلِ نزولِ الوحيِ عليهِ وكانَ عُمُرهُ إذْ ذاك أربعينَ عامًا، من بيتِ أُمِّ هانئ من مكةَ المكرَّمةِ، من المسجدِ الحرامِ أركَبَهُ سيدنا جبريلُ البُراقَ وهو دابَّةٌ من دواب الجنَّةِ، يضَعُ حافِرَهُ عندَ منتهى طرْفِهِ، فركبَ النبيُّ خلْفَ جبريلَ، ومَرَّ بالمدينةِ المنوَّرةِ قبلَ أنْ يُهاجر إليها، فنَزَلَ وصلَّى ركعتينِ، ثمَّ مرَّ بمدينةِ مدْيَنَ مدينةِ النبيّ شُعيبٍ عليهِ السلام، فنَزَلَ وصلَّى ركعتينِ، ثمَّ بطورِ سيناءَ فنَزَلَ وصلَّى ركعتين، ثم ببيتِ لحمٍ حيثُ وُلِدَ سيدنا عيسى عليهِ السلام فنَزلَ وصلَّى ركعتين، ثم وصلَ إلى بيتِ المقدسِ الذي بناه أولُ البشرِ وأول الأنبياءِ والرسلِ سيدُنا ءادمُ عليه السلامُ بعدَما بنى الكعبةَ بأربعينَ عامًا، فربطَ النبيُّ البُراقَ بالحلْقةِ التي يربطُ بها الأنبياءُ، ثم دخلَ وقد جمعَ الله لهُ جميعَ الأنبياءِ من ءادمَ فَمَنْ بعدَهُ تشريفًا لهُ وتعظيمًا، فقدَّمَهُ جبريلُ ليُصلّيَ بهم إمامًا، حتى عيسى عليهِ السلامُ الذي كانَ في السماءِ بعدُ لم يمُتْ أنزلَهُ الله، وقد أخذَ الله العهدَ على كلِّ نبيٍّ أنَّهُ إنْ بُعِثَ محمَّدٌ وهو حيٌّ لَيؤمِنَنَّ بهِ ولينصرنَّهُ، وقد أمرَ كلُّ نبيٍّ قومَهُ بمُقتضى ذلكَ العهدِ، فكانَ كلُّ نبيٍّ يعرفُ محمَّدًا من غيرِ أنْ يراهُ.
ثم خرجَ من الأقصى فجاءَهُ جبريلُ عليهِ السلامُ بإناءٍ من لبنٍ و إناءٍ من خمرٍ ليسَ خمرَ الدنيا المسكِرَ النجِسَ، وإنما خمرَ الجنةِ الطاهرَ الذي لا يُسكر، أتاهُ بإناءٍ من خمرٍ وإناءٍ من لبنٍ أي حليبٍ، فاختارَ النبيُّ اللبنَ، فقالَ لهُ جبريلُ: اخترتَ الفطرةَ، أي اخترتَ الدينَ، اخترتَ الإسلامَ.
هذا موجزٌ عن قصَّةِ الإسراءِ، تعالَوا معي لأحدِّثكم عن بعضِ ما رأى في إسرائهِ، رأى وهو في طريقهِ إلى بيتِ المقدسِ الدنيا بصورةِ عجوزٍ، ورأى أُناسًا تُرضَخُ أي تُكَسَّرُ رؤوسهم ثم تعودُ كما كانتْ، فقالَ جبريلُ: "هؤلاءِ الذينَ تتثاقَلُ رؤوسهم عن تأديةِ الصلاةِ".
وهنا تأتي القصَّةُ العجيبةُ، شَمَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم رائحةً طيِّبةً من قبر ماشطةِ بنتِ فرعونَ، وحُكيتْ لهُ القصَّةُ، فهذهِ الماشطةُ كانتْ تُسرِّحُ شعر بنتِ فرعونَ، فوقعَ المِشطُ من يدها، فقالتْ بسمِ الله، فقالتْ لها بنتُ فرعونَ أوَلَكِ ربٌّ إله غيرُ أبي؟ اسمعوا، وُجِّهَ السؤالُ للماشطةِ أَوَلكِ ربٌّ إله غيرُ أبي؟ فكانَ جوابُها ربي وربُّ أبيكِ هو الله، فأخبرتِ البنتُ أباها، فطَلَبَ منها فرعونُ الرجوعَ عن دينها، وأيُّ التزامٍ وأيُّ موقفٍ، فأبتِ المرأةُ أنْ ترجعَ عن الحقِّ والدينِ، أبتِ المرأةُ أن ترجِعَ عن الإسلامِ معارضةً الطاغيةَ الجبارَ فرعون بإيمان راسخ ويقين شامخ، وقلب ثابتٍ ثابتٍ لا يُزَحْزِحُهُ بطش فَرعونَ عن الإيمان بالله ولا قيدَ أُنْمُلَة الله أكبر، الله أكبر أيُّ موقفٍ بطوليٍ هذا، أيُّ التزامٍ وتمسكٍ بالحق هذا، بل أيُّ ثباتٍ وشموخٍ هذا، بل أيُّ عِزَّةٍ إيمانية وكرامةٍ إسلاميةٍ هذه؟ استشاط عدوُّ الله فرعون غضبًا، فحمَّى لها زيتًا يغلي، وألقى فيهِ أولادَها وبينَ يديها طفلٌ رضيعٌ فأنطَقَهُ الله فقال يا أُمَّاهُ اصبِري فإنَّ عذابَ الآخرة أشَدُّ من عذابِ الدنيا، فلا تتقاعسي فإنَّكِ على الحقِّ أنطقَهُ الله الذي أنطقَ كلَّ شىءٍ، أليسَ الله على كلِّ شىءٍ قدير؟ بلى ونحنُ على ذلكَ من الشاهدين.
فقالتْ لفرعونَ: لي عندكَ طلَبٌ، أنْ تجمعَ العظامَ وتدفنها في مكانٍ واحدٍ فقالَ لها لكِ ذلكِ، فرماها هي ورضيعَها في الزيتِ الحامي، فماتتْ هي وأولادُها شهداء، ومن ذلكَ القبرِ شمَّ النبيُّ تلكَ الرائحة الطيبة.
أمَّا المعراجُ فقد ثبتَ بنصِّ الأحاديثِ الصحيحةِ ، وأما القرءانُ فلم ينصَّ عليهِ نصًّا صريحًا، لكنْ وردَ فيهِ ما يكادُ أنْ يكونَ صريحًا.
إخوةَ الإيمانِ:
إنَّ الله هو خالقُ السمـواتِ وخالقُ الأماكن وخالقُ كل شىء، فكانَ الله موجودًا قبلَ كل شىء أي قبلَ الأماكن كان موجودًا بلا هذهِ الأماكنِ كُلِّها، وهو الذي لا يحتاجُ إلى شىءٍ، قالَ الإمامُ عليٌّ رضي الله عنهُ: "كانَ الله ولا مكان وهو الآنَ على ما عليهِ كان".
أي كانَ الله موجودًا قبلَ خلْقِ المكانِ بلا مكانٍ، وبعدَ أنْ خلَقَ المكانَ هو موجودٌ بلا مكانٍ.
وحسْبُنا قولُهُ تعالى: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ{ أي لا يُشبِهُ شيئًا من مخلوقاتِهِ ولا يوصَفُ بصفةٍ من صفاتِ المخلوقاتِ، أما اعتقادُ أنَّ الرسولَ وصلَ إلى مكانٍ في السمـواتِ العُلا هو مَرْكَزٌ للَّه تعالى فهو ضلالٌ وكُفْرٌ وتكذيبٌ لقوْلهِ تعالى: }لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ{ وقولهِ تعالى: }وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ{ أي لا شبيهَ ولا مثيلَ لهُ.
فالقصْدُ من المعراجِ هو تشريفُ الرسولِ بإطلاعهِ على عجائبِ خلْقِ الله في العالمِ العُلويِّ، وتعظيمُ مكانتِهِ لقولهِ تعالى: }لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا{.
إذًا ليسَ الإسراءُ والمعْرَاجُ رؤيةَ مَنَامٍ بدليلِ أنَّ قريشًا لو فهمتْ من الرسولِ أنَّ الإسراءَ والمعراجَ كان رؤيةَ منامٍ لَمَا اعترضت عليهِ، فاعتراضُ كُفَّار قريشٍ على النبيِّ هو دليلٌ على أنَّ الإسراءَ كانَ بالجسدِ والروحِ معًا، وفي اليقظة لا في المنام، والذي يعتقدُ خلافَ ذلكَ لا يكونُ من المسلمينَ، وعليهِ الرجوعُ إلى الإسلامِ بالنطقِ بالشهادتينِ بقولهِ أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأشهدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ الله، ولا تنفعهُ كلمةُ أستغفرُ الله قبل النطق بالشهادتين للتخلص من الكفرِ؛ لأنَّ الاستغفارَ ينفعُ المسلمَ ولا ينفعُ الكفَّارَ، أقولُ قوْلي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للَّهِ ربّ العالمين لهُ النّعمَةُ ولهُ الفضلُ وله الثناءُ الحسنُ وصَلواتُ الله البَرّ الرَّحيم والملائكةِ المقربينَ على سَيّدنا محمدٍ وعلى سائرِ الأنبياءِ والمرسلينَ وأهلِ بيتِه الطيّبينَ الطاهرينَ وسلامُ الله عليهم أجمعين. أما بعدُ عبادَ الله أوصي نفسي وأوصيكم بتقوى الله العليّ العظيم.
واعلَموا أنَّ الله أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيه الكريم فقال }إِنَّ الله وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا {اللهمَّ صَلّ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ وبارِكْ على سيّدِنا محمَّدٍ وعلى ءالِ سيّدِنا محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على سيّدِنا إبراهيمَ وعلى ءالِ سيّدِنا إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ (2)}.
اللهمَّ إنَّا دعوناك فاستجبْ لنا دعاءَنا فاغفرِ اللهمَّ لنا ذنوبَنا وإسرافنا في أمرنا اللهمَّ اغفرْ للمؤمنينَ والمؤمناتِ الأحياءِ منهم والأمواتِ ربنَا ءاتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقنا عذاب النار اللهم اجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين اللهمَّ استر عوراتِنا وءَامِن رَوعاتِنا واكفِنا ما أهمَّنا وقِنا شرَّ ما نتخوف.
عباد الله }إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{ [سورة النحل] وأقم الصلاة.
مواضيع ذات صلة
|
|
|
|
|
|