حديث الإفك
حديث الإفك
يقول الشيخ فخر الدين بن عساكر رحمه الله عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال فيها أهل الإفك ما قالوا فبرّأها الله ...
ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرَعَ بين نسائه فأيّتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه.
قالت عائشة رضي الله عنها: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعدما أُنزل الحجاب فأنا أُحمل في هودجي وأُنزل فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه، وقفل ودنَونا من المدينة، آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيتُ من شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقدي من جذْعِ ظِفارٍ(1) قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، قالت: وكانت النساء إذ ذاك خِفافًا لم يُهَبَّلنَ (2) ولم يغشَهَنّ اللحم، إنما يأكلن العُلقة (3) من الطعام، ولم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عِقدي بعدما استمرّ الجيش فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مُجيب، فتيممّت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إليّ.
فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطَّل السُّلمي ثم الذّكواني قد عرّس (4) من وراء الجيش فأدلج (5) فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسانٍ نائم فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يُضرب الحجاب عليّ فاستيظت باسترجاعه (6) حين عرفني، فخمّرت (7) وجهي بجلبابي، ووالله ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته فوطأ على يدها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغِرين (8) في نحر الظهيرة.
فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولّى كِبرَه (9) عبدُ الله بنُ أُبيّ بن سَلول .
فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمنا المدينة شهرًا، والناس يفيضون في قول أهلك الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يُريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللُطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُسلّم ثم يقول: كيف تيكم؟ فذاك يُريبني ولا اشعر بالشرّ حتى خرجتُ بعدما نقهتُ، وخرجت معي أم مِسطِحٍ قبل المناصع (10) وهو متبرّزنا، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذاك قبل أن نتخذ الكُنُف (11) قريبًا من بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مِسطح وهي بنت أبي رُهم بن المطلب بن عبد منافٍ، وأمها ابنة صخر ابن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مِسطح ابن أُثاثة بن عبّاد فأقبلت أنا وبنت أبي رُهمٍ قِبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مِسطحٍ في مِرْطِها (12) فقالت: تعس مسطحٌ، فقلت لها: بئس ما قلتِ، أتسبين رجلا قد شهد بدرًا؟ فقالت: أي هنتاه (13)، أو لم تسمعي ما قال؟ قلتُ: وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضًا إلى مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: كيف تيكم؟ قلت: أتأذن لي أن آتي أبويَّ؟ قالت: وأنا حينئذٍ أريد أن أتيقّن الخبر من قبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبويَّ، فقلت لأمي: يا أماه، ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بُنيّة، هوّني عليك فوالله لقلّما كانت امرأةٌ قطُّ وضيئةٌ عند رجلٍ يُحبّها ولها ضرائر إلا كثّرن (14) عليها قالت: قلت : سبحان الله، وقد تحدّث الناسُ بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي.
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ بن ابي طالب وأسامةَ بن زيد حين استلبث (15) الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلمه من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال: يا رسول الله، هم أهلك ولا نعلم إلا خيرًا، وأما عليّ بن أبي طالب فقال: لمْ يُضيّق اللهُ عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصْدُقك، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم برِيْرَةَ (16) فقال: أي بريرةَ، هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ قالت: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرًا قط أغمِصُهُ (17) عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجِنَ (18) فتأكله، قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فاستعذر (19) من عبد الله بن أبيّ ابن سَلول، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي، فواللهِ ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا ولقد ذكروا رجلا ما علمتُ عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أنا أعذِرُك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، قالت: فقام سعد بن عُبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحًا،ولكن اجْتَهَلتْه الحميّة فقال لسعد بن معاذ كذبت، لعَمْرُ الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، فقام أُسيد بن حُضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عُبادة: كذبت لعَمْرُ الله لنقتلنّه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيّانِ الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحفّظهم حتى سكتوا، وسكَتَ.
قالت: فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنّان أن البكاء فالقُ كبدي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت استأذنت عليّ امرأةٌ من الأنصار فأذِنتُ لها، فجلست تبكي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثم جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل فيَّ ما قيل، ولقد لبث شيئًا لا يُوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهّد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال: أما بعد، يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيُبرِئُك الله، وإن كنت ألمَمْتِ بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبٍ ثم تابَ تابَ اللهُ عليه، قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قَلَصَ (20) دمعي حتى ما أُحسّ منه قطرة، فقلت لأبي: أجِب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال، فقال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرًا من القرءان: إني والله لقد عرفت أنكم سمعتم بهذا حتى استقرّ في أنفسكم وصدّقتم به، فإن قلت لكم: إني بريئة – والله يعلم أني بريئة – لا تصدّقوني بذلك ولئن اعرفتُ لكم بأمرٍ – والله يعلم أني بريئة – لتُصدِّقوني وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف {فصبرٌ جميل والله المُستعان على ما تصفون}.
قالت: ثم تحوّلتُ فاضطجعتُ على فراشي، قالت: وأنا والله حينئذِ أعرف أني بريئة، وأن الله مُبرِئي ببراءة، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يُتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيَّ بوحيٍ يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا يُبرئني الله بها، قالت: فوالله ما رامَ (21) رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على نبيّه، فأخذه ما كان يأخذه من البُرحاء (22) عند الوحي حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجُمان من العرق في اليوم الشاتِ من ثِقَل القول الذي أنزل عيله، قالت: فلما سُريّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة، أما الله فقد برّأك، فقالت أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، قالت: فأنزل الله {إن الذين جاءوا بالإفك عُصبةٌ منكم} عشرَ ءايات، فأنزل الله في هذه الآيات براءتي.
قالت: فقال أبو بكر - وكان يُنفق على مِسطحٍ لقرابته من وفقره-: والله لا أُنفق عليه شيئًا بعد الذي قال في عائشة، فأنزل الله تعالى: {ولا يأتلِ أولو الفضلِ منكم} إلى قوله: {ألا تُحبون أن يغفرَ الله لكم}.
فقال أبو بكر: إني لأحبُ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مِسطحٍ النفقة التي كان يُنفق عليه، وقال: لا انزعها منه أبدًا.
1- الجزع: خرز معروف في سواده بياض كالعروق، وظفار مدينة في اليمن.
2- يهبّلن: اي يثقلن باللحم والشحم.
3- التعريس: النزول ءاخر الليل في السفرلنوم أو استراحة، وقيل النزول في أو قت كان.
4- الإدلاج: هو السير ءاخر الليل.
5- اي انتبهت من نومي بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون
6- خمّرت وجهي: غطّيته
7- الوغر: النازل في وقت الوغرة وهي شدة الحر، ونحر الظهيرة وقت القائلة وشدة الحر.
8- تولى كبره: اي معظمه.
9- قبل المناصع: موضع خارج المدينة يُسمى بالمناصع.
10- الكُنُف: جميع كنيف وهو الساتر مطلقًا.
11- المرط: كساء من صوف أو كتّان أو خز.
12- هنتاه: بسكون النون وقد تُفتح وفي ءاخره هاء ساكنة وقد تُضم، أي يا هذه.
13- كثّرن عليها: أي أكثرن القول في عيبها ونقصها.
14- استلبث: اي ابطأ ولم ينزل.
15- برية: مولدة عائشة، كانت لعتبة بن أبي لهب فكاتبوها ثم باعوها فاشترتها عائشة، وجاء الحديث ف شأنها بأنّ الولاء لمن أعتق. عاشت إلى زمن يزيد بن معاوية. (تهذيب التهذيب 12/403)
16- أغمص: اي أعيبها به
17- الداجن:الشاة التي تألف البيت ولا تخرج إلى المرعى.
18- استعذر: اي من يعذرني فيمن ءاذاني في أهلي.
19- اقتلص: أي ارتفع وراح.
20- ما رام: ما فارق.
21- البرحاء: الشدة، وهي تعني شدّة ثقل الوحي.
22- يتحدر: ينزل ويقطر، والجمان: اللؤلؤ.
مواضيع ذات صلة
|
|
|
|
|
|