كَلامُ اللهِ تعالى (2)
هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم (76)
بسم الله الرحمن الرحيم
كَلامُ اللهِ تعالى (2)
مِنْ حَيْثُ أَصْلُ اللُّغَةِ كَلِمَةُ "قُرْءان" مَصْدَرٌ مِنْ قَرَأَ يَقْرَأُ، وَمَعْنَاهُ: الْكَلامُ الْقَائِمُ بِالْمُتَكَلِّمِ. فَالْقُرْءَانُ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ يَنْصَرِفُ إِلى كَلامِ اللهِ الْذَّاتِيِّ. لِذَلِكَ قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "الْقُرْءَانُ قَوْلُ اللهِ تعالى وَالْقَوْلُ صِفَةُ الْقَائِلِ وَالْقَائِلُ مَوْصُوفٌ بِهِ" اهـ
وَقَالَ الْفَيُّومِيُّ في الْمِصْبَاحِ: "وَإِذَا أُطْلِقَ انْصَرَفَ شَرْعًا إلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ وَلُغَةً إلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ لأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُقْرَأُ نَحْوُ كَتَبْتُ الْقُرْآنَ وَمَسِسْتُهُ" اهـ. فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقُرْءانَ عِنْدَ الإطْلاقِ يَنْصَرِفُ إِلى صِفَةِ اللهِ تعالى، وَصِفَاتُ اللهِ تعالى كُلُّهَا لا تُوصَفُ بِأَنَّهَا مَخْلُوقَة، لِذَلِك لَمْ يَرْضَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يُقَال "الْقُرْءانُ مَخْلُوقٌ"، بَلْ قَالُوا عِنْدَ الإطْلاقِ لا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْقُرْءانُ مَخْلُوقٌ، لِذَلِكَ الإمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا رَضِيَ أَنْ يُطْلَقَ هَذَا اللَفْظُ "القُرءانُ مَخْلُوقٌ" لأَنَّ الْقُرْءانَ بِحَسَبِ أَصْلِ اللُّغَةِ يَنْصَرِفُ إلى كَلامِ اللهِ الذَّاتِيِّ، وَحَتَّى لا يُتَوَهَّمَ حَدُوثُ الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللهِ.
أَمَّا عِنْدَ التَّقْييدِ فَيَجُوزُ، كَأَنْ يقالَ "الْقُرْءَانُ بِمَعْنَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ مَخْلُوقٌ" فَهَذَا لا بَأسَ بِهِ. وَالْحَقُّ أَنْ يُقَالَ كَلامُ اللهِ لَهُ إِطْلاقَانِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَى الصِّفَةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِ اللهِ وَهَذَا لا شَكَّ أَنَّهُ أَزَلِيٌّ لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلا صَوْتٍ وَلا لُغَةٍ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَعْنَى اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ عَلَى الأَنْبِيَاءِ الَّذِي هُوَ مَكْتُوبٌ في اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَمَحْفُوظٌ في الصُّدُورِ وَمَتْلُوٌّ بِالأَلْسُنِ فَهَذَا لا شَكَّ أَنَّهُ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ، وَلِتَقْرِيبِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ إِلى الأَفْهَامِ قَالَ أَهْلُ الْحَقِّ إِنْ كَتَبَ كَاتِبٌ عَلَى لَوْحٍ حُرُوفَ لَفْظِ الْجَلالَةِ (الله) فَسَأَلَ سَائِلٌ مَا هَذَا؟ يَكُونُ الْجَوَابُ اللهُ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الذَّاتَ الْمُقَدَّسَ حَلَّ في اللَّوْحِ إِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّ هَذِهِ الْحُرُوفَ عِبَارَةٌ عَنِ الذَّاتِ الْمُقَدَّسِ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ فَالْعِبَارَةُ شَىْءٌ وَالْمُعَبَّرُ عَنْهُ شَىْءٌ ءاخَرُ.
ثُمَّ إِنَّ اللهَ تبارَكَ وَتعالى أَخْبَرَ في الْقُرْءانِ أَنَّهُ يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ بِكَلامِهِ تعالى الأَزَلِيِّ الأَبَدِيِّ، كُلُّ مَا خَلَقَ اللهُ وَمَا سَيَخْلُقُهُ، مَا أَوْجَدَهُ وَمَا سَيُوجِدُهُ، وُجُودُهُ بِكَلامِ اللهِ تعالى، هَذَا مَعْنَى " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون " [سورة يس، 82] مَعْنَى الآيَةِ أَنَّ الشَّىْءَ الَّذِي أَرَادَ اللهُ وُجُودَهُ يَخْلُقُهُ بِكَلامِهِ الأَزَلِيِّ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ في الْقُرْءَانِ بِـ " كُن " لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْطِقُ بِالْكَافِ وَالنُّونِ، النُّطْقُ بِالْكَافِ وَالنُّونِ مِنْ صِفَاتِنَا، ثُمَّ الْقَوْلُ بِأَنَّ اللهَ يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ بِالْكَافِ وَالنُّونِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ بَعْدَ النُّطْقِ بِالْكَافِ وَالنُّونِ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ لأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الْحُدُوثِ للهِ لأَنَّهُ جَعَلَ اللهَ نَاطِقًا وَهَذَا مِنْ صِفَاتِ الْخَلْقِ، إِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُ يَخْلُقُ الأَشْيَاءَ الَّتي أَرَادَ وُجُودَهَا بِالْكَلامِ الأَزَلِيِّ الّذي لَيْسَ حَرْفًا وَلا صَوْتًا، هَذَا مَعْنَى الآيَةِ " إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون " [سورة يس، 82].
وَأمَّا مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ (سُبْحَانَ مَنْ أَمْرُهُ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّون) فَهُوَ كَلامٌ فَاسِدٌ، لا هُوَ قُرْءانٌ وَلا حَدِيثٌ وَلا هُوَ كَلامُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَبَيْنَهُمَا اخْتِلافٌ، الآيَةُ ظَاهِرُهَا –وَهُوَ لَيْسَ الْمَقْصُودَ- أنَّهُ بَعْدَ كُنْ يَخْلُقُ الشَّىْءَ وَأَمَّا هَذَا الْقَوْلُ فَمَعْنَاهُ يُخْلَقُ الشَّىْءَ بَيْنَ الْكَافِ وَالنُّونِ وَهُوَ مُخْتَلِفٌ مَعَ ظَاهِرِ الآيَةِ. الآيَةُ تُقْرَأُ كَمَا جَاءَتْ وَلا تُفَسَّرُ عَلَى الظَّاهِرِ أَمَّا ذَلِكَ الْكَلامُ الَّذي لا يُعْرَفُ مَصْدَرُهُ فَلا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ، بَعْضُ الآياتِ الْقُرْءانِيَّةِ مَنْ يَحْمِلُهَا عَلى الظَّاهِرِ يَهْلِكُ.
اللهُ تعالى لِيَمْتَحِنَ عِبَادَهُ أَيْ لِيَبْتَلِيَهُمْ أَنْزَلَ ءاياتٍ مَنِ اعْتَقَدَ ظَاهِرَهَا ضَلَّ وَهَلَكَ وَللهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا في الْقُرْءانِ بِأَنَّ بَعْضَ الْقُرْءَانِ يُضِلُّ بِهِ بَعْضَ النَّاسِ وَيَهْدِي بِهِ بَعْضًا وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تعالى " يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا "، وَكُلُّ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ الْمُدَّعِيةِ الإسْلامَ يَحْتَجُّونَ بِبَعْضِ الآيَاتِ.
الْمُعْتَزِلَةُ الضَّالُّونَ يَأخُذُونَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تعالى " لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ " وَأَهْلُ السُّنَّةِ يُخَالِفُونَهُمْ في تَفْسِيرِهَا، وَلِهَذِهِ الْعِبَارَةِ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ إِنَّ الْمُؤْمِنينَ يَرُوْنَ اللهَ في الْجَنَّةِ بِلا كَيْفٍ سَمَّوْا أَهْلَ السُّنَّةِ بِالْحَمِيرِ الْمُؤْكَفَةِ. وَالآيَةُ مَعْنَاهَا لا تَصِلُ إِلَيْهِ تَصَوُّرَاتُ الْعِبَادِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِتَفْسِيرِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ لِقَوْلِهِ تعالى " وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى " [سورة النجم، 42] قَالَ "إِلَيْهِ يَنْتَهِي فِكْرُ مَنْ تَفَكَّرَ فَلا تَصِلُّ إِلَيْهِ أَفْكَارُ الْعِبَادُ" اهـ.
لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا يُتَصَوَّرُ وَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللهَ لا يُرَى في الآخِرَةِ بَلْ يُرَى، يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ في الآخِرَةِ بِلا كَيْفٍ وَلا مَكَانٍ، لا يُرَى كَمَا يُرى الْمَخْلُوقُ، الْمَخْلُوقُ يُرَى في جِهَةٍ وَمَكَانٍ وَلَهُ شَكْلٌ وَهَيْئَةٌ وَصُورَةٌ، قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ "إِنَّ الَّذي يَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِي هَيْئَةٍ وَلا صُورَةٍ لأَنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِي الْكَيفِيَّةَ وَهِيَ عَنِ اللهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ" اهـ.
مواضيع ذات صلة
|
|
|
|
|
|