الدنيا مزرعة الآخرة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونشكره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مثيل له ولا ضدّ ولا ندّ له وأشهد أنَّ سيدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا وقرة أعيننا محمّدًا عبد الله ورسوله صلوات الله وسلامه عليه وعلى كل رسول أرسله.
أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى جعل هذه الحياة الدنيا مزرعة للآخرة فمن زرع فيها ما ينفعه في الآخرة ويكون له ذخرًا باجتناب المعاصي وأداء الطاعات فمزرعته صارت خيرًا له ونجاة وفوزًا في الآخرة ، فالرسول قال: "الدنيا مزرعة الآخرة".
وروي أن ابن مسعود قال: "إنكم في ممر من الليل والنهار في ءاجال منقوصة وأعمال محفوظة والموت يأتي بغتة فمن زرع خيرًا فيوشك أن يحصد رغبة، ومن زرع شرًا فيوشك أن يحصد ندامة ولكل زارع مثل ما زرع".
فاغتنموا في هذه الأيام القلائل لتلك الأيام الطوال ما يكون ذخرًا لكم وهو الدؤوب (أي المبالغة في السير) على تعلم ما فرض الله تعالى من علم الدين. فالمغبون من أنفق عمره في غير طاعة الله ، والزاهد من ترك كل شىء يشغل عن طاعة الله.
أما واللهِ لو علمَ الأنامُ **** لِمَا خُلقوا لَمَا غفِلوا وناموا
فموتٌ ثمَ بعثٌ فحشرٌ **** فتوبيخٌ وأهوالٌ عظامُ
فقد روي عن مهاجر بن عمير قال: قال علي بن أبي طالب: "إن أخوف ما أخاف أتباع الهوى وطول الأمل، فأما أتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة ألا وإن الدنيا قد ترحلت مدبرة، ألا وإن الآخرة قد ترحلت مقبلة ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل".
روي أنه لما ظهر موسى عليه السلام على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط (أهل مصر) سأل ربه: "أي عبادِك أحبُّ إليك ؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأي عبادك أقضى؟ قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى.
قال: وأي عبادك أعلم؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدًى أو تردّه عن ردًى. فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم مني فدلني عليه. قال أعلم منك الخضر".
فالعلم، علم الدين دليل الفلاح والنجاح والنجاة في الآخرة وبه يُعلم شكر الله لأن شكر الله هو طاعته، والجهل بعلم الدين مذموم. فقد قال بعض السلف: "الجاهل يريد أن يحسن فيفسد" لجهله، لأن الجاهل كالتائه في الصحراء بلا دليل يمشي لا يدري أيقترب من مبتغاه أم يبتعد، الجاهل يكون ألعوبة بيد الشيطان لأنه يوهمه أن هذا الأمر يقربه من الله وفي الحقيقة يبعده من الله، ما عنده تمييز، الجاهل لا يضمن صحة طهارته ولا صحة صلاته ولا صحة زكاته ولا صحة حجه ولا صحة صومه، كيف يضمن وهو لا يعرف الأحكام؟ كيف يضمن أن صلاته صحيحة وأن صيامه صحيح؟
قال بعض الصالحين: "مَن أنِسَ بالجهل قد يفرّ من العلم كما أنّ الْجُعُلَ يفرّ من المسك ويألف القذر".
الْجُعُل هذه الحشرة التي تدور حول الخلاء في بلاد الفلاحين، حشرة صغيرة مستديرة الشكل لمسها خنفساء هذه قوتُها القذر الذي يخرج من بني ءادم تكتّله ثم تسوقه إلى وكرها، هذه تهرب من المسك وتألف هذا القذر.
فمن أراد الرفعة والرقي إلى المقامات السنية يتعلم ويتعب ويعمل ويكن في ازدياد لعمل الآخرة ويطرح الكسل وراء ظهره لأن الدنيا زائلة والآخرة ينفع فيها التقوى وهما ضرّتان إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.
وقد بعض العلماء : "الدنيا والآخرة مثل المشرق والمغرب كلما اقتربت من واحدة اتبعدت عن الأخرى".
ويقول الله عزّ من قائل: {أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} التوبة/38.
وقال جلت أسماؤه: {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} ءال عمران 185 .
وروى مسلم عن مُطّرفٍ عن أبيه قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ ألْهاكم التكاثر قال يقول ابن ءادم مالي مالي قال وهل لك يا ابن ءادم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت".
فقوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} أي شغلكم المباهاة بكثرة المال والعدد والتفاخر بالقبائل والعشائر والتشاغل بالمماشي والتجارة عن طاعة الله وعبادته.
وقيل إن سبب نزولها أن اليهود قالوا: نحن أكثر من بني فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان فألْهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً فنَزلت هذه الآية فيهم .
{حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}: أي مفتخرين بالأموات تزورون المقابر وتعدون من فيها من موتاكم تكاثرًا وتفاخرًا.
وقيل حتى أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال حضرتم في المقابر زوّارًا ترجعون منها إلى منازلكم في الجنة أو في النار كرجوع الزائر إلى منْزله.
{كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}: كلا: أي ليس الأمر على ما أنتم عليه من التفاخر والتكاثر.
{ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}: أي سوف تعلمون عاقبة هذا إذا نزل بكم الموت.
{ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}: هذا وعيد بعد وعيد، وتكرار ذلك إنما هو على وجه الوعيد.
{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}: أعاد {كلا} وهو زجر وتنبيه، والمعنى: لو تعلمون علمًا يقينًا لشغلكم ما تعلمون عن التكاثر والتفاخر.
{لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}: أي النار، وهذا وعيد ءاخر وهو إضمار القسم.
قال القرطبي: "والخطاب للكفار الذين وجبت لهم النار".
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}: أي مشاهدة.
فالمراد بقوله: {عَيْنَ الْيَقِينِ} نفس اليقين لأن عين الشىء ذاته.
{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}: الظاهر العموم في النعيم وهو كل ما يُتلذّذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب والأمن والماء البارد العذب وصحة الأبدان والفراغ وكل شىء من لذة الدنيا ، فالكافر يسأل توبيخًا إذ لم يشكر المنعم ولم يوحده.
والمؤمن يسأل عن شكرها، والشكر أن لا يعصيه بنعمه . فقد قال الجنيد البغدادي لَما سئل عن الشكر: "أن لا يعصي الله بنعمه".
والجنيد البغدادي سيد الطائفة الصوفية في زمانه، شيخ المائدة، شيخ هدى. كان يجيء كل يوم إلى السوق فيفتح حانوته فيدخله ويسبل الستر ويصلي أربعمائة ركعة ثم يرجع إلى بيته. وهذا الجنيد قال ذات مرة: "ما أخرج الله إلى الأرض علمًا وجعل للخلق إليه سبيلاً إلا وقد جعل لي فيه حظًا ونصيبًا".
وهو الذي تفرس بذلك الغلام الذي كان يهوديًا وكان قد سأله ما معنى: "اتقوا قراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" فأطرق رأسه الجنيد ثم رفعه وقال له: "أسلم فقد حان وقت إسلامك".
كان عالِمًا زاهدًا تقيًا صوفيًا صالِحًا، كان محط رجال الصوفية، يعني إذا الصوفية قصدوا أمر التصوف فهو محط رحالهم، فكان يقصده كل أهل فن من العلوم ليأخذ منه ويستفيد من علمه في فنه الذي يريد. يعني يقصده أهل اللغة لأخذ اللغة، أهل النحو للنحو، أهل الصرف للصرف، أهل الحديث للحديث، أهل التفسير للتفسير، أهل القراءة للقراءة، أهل الفلك للفلك، أهل الحساب للحساب، كل العلوم الله أعطاه حظا منها. يعني أفاض الله على قلبه، هذا من العلم اللدني، أفاض على قلب هذا الرجل الصالح حظًا من كل أنواع العلوم، هذا الإمام الجنيد هو الذي قال: "الطريق إلى الله مسدود إلا على المقتفين ءاثار رسول الله".
يعني ما في طريق للوصول للكمال إلا باتباع الرسول .
هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم
مواضيع ذات صلة
|
|
|
|
|
|