|
الفصل الثالث بيان شذوذ الألباني في مسألة التأويل
تهجم الألباني على علماء الخلف وجَمعٍ من علماء السلف لتأولهم ما تشابه من ءايات
القرءان والحديث, فقال ما نصه(1):{ ونحن نعتقد أن كثيرا من المؤولة ليسوا زنادقة
لكن في الحقيقة أنهم يقولون قولة الزنادقة}اهـ, وقال(2):{ التأويل هو عين
التعطيل}اهـ.
فنقول: علماء السلف والخلف أوّلوا فأنت يا ألباني لست مع السلف ولا مع الخلف,
فهذا كأنه اعتراف منك بالخروج عن الملة, أليس أوّلت أنت وجماعتك المشبهة قوله
تعالى:{ وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ
اللهِ }(115)[سورة البقرة] فهذه الآية ظاهرها أن الله محيط بالأرض بحيث يكون
المصلي متوجها إلى ذات الله, أليس أنت وجماعتك أوّلتم قوله تعالى حكاية عن
إبراهيم:{ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ }(99)[سورة الصافات] أليس
إبراهيم كان في العراق وذهب إلى فلسطين, أليس أولتم هذه الآية ولم تأخذوا بظاهرها
الذي يوهم أن الله متحيز في أرض فلسطين, وأين أنت يا ألباني وجماعتك من حديث
مسلم(3):{ ما تصدّق أحد بصدقة من طيّب, ولا يقبل الله إلا الطيب, إلا أخذها الرحمن
بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن}, أليس ظاهر هذا الحديث أن المتصدق إذا
تصدق وقعت صدقته في يد الله, أليس أولتم هذا؟؟؟ أم حملتموه على الظاهر فتكونون
جعلتم يد الله تحت يد المتصدق.
فإن قلتم: هذا الحديث والآيات التي ظواهرها أن الله في غير جهة فوق نؤولها وأما
الآيات التي ظواهرها أنه متحيز في جهة فوق نعتقدها ولا نؤولها, قلنا: هذا تحكّم
أي دعوى بلا دليل, بل الدليل العقلي والنقلي يدلان على وجوب ترك حمل هذه الآيات
وما كان على نحو هذا الحديث على ظواهرها وإلا لتناقضت هذه الآيات مع قوله تعالى:{
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ }(11)[سورة الشورى] والقرءان منزه عن التناقض, والذي
أوقعكم في هذا هو أنكم لا تؤمنون بوجود موجود ليس في جهة ومكان وليس حجما مخصوصا
فمن أين يصح لكم معرفة الله وأنتم على هذه الحال.
أما نحن أهل السنة والجماعة فقد أوّلنا هذه وهذه, فنحن نوفّق بين الآية:{ لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَىْءٌ } وبين تلك الآيات, فإن الآيات والأحاديث منها ما هو محكم ومنها
ما هو متشابه ونحن رددنا المتشابه بقسميه القسم الذي يدل ظاهره أن الله متحيز في
جهة فوق والقسم الذي يدل على أنه متحيز في جهة تحت إلى الآيات المحكمة كقوله
تعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ }(11)[سورة الشورى]
وأما حديث:{ كان الله ولم يكن شيء غيره} فهو دال دلالة صريحة على أن الله موجود
بلا مكان لأن المكان غير الله. فتبين أن مذهبكم التحكّم, ومذهب أهل السنة
الاعتدال, وليس مذهبنا التعطيل بل أنتم عطلتم قسما من الآيات والأحاديث جعلتموها
وراء ظهوركم كأنكم لم تسمعوها أو تروها.
فالحاصل أن المتشابه من الكتاب والسنة قسمان قسم يوهم ظاهره أن الله في جهة فوق
متحيز وأن له أعضاء وحركة وسكون, وقسم ظاهره أن الله متحيز في جهة تحت, فعَمَد
أهل السنة إلى تأويل القسمين وردّهما إلى الآيات المحكمة كقوله تعالى:{ لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَىْءٌ } وقوله:{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ }(4)[سورة
الإخلاص] عملا بقول الله تعالى:{ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
مِنْهُ ءايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ
}(7)[سورة ءال عمران], لما وصف سبحانه المحكمات بأنها أم الكتاب رددنا القسمين من
المتشابه إلى المحكمات وهن أم الكتاب أي أصل الكتاب.
أما أنت يا ألباني وطائفتك المشبهة حملتم قسما من المتشابه على الظاهر وألغيتم
القسم الآخر فكأنكم جعلتم القسم الآخر ما لا يلتفت إليه والقرءان كله حق وصحيح, ثم
إنكم جعلتم لله أعضاء وحَدا ومقدارا حملا للآيات التي ظواهرها ذلك على الظاهر
فجعلتم لله أمثالا وخالفتم قوله تعالى:{ وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ}
(8)[سورة الرعد] والعالم لطيفه وكثيفه له مقدار فجعلتم الخالق مثل خلقه, فالعرش له
مقدار أي حد يعلمه الله والشمس لها مقدار أي حد يعلمه الله والنور والظلام له
مقدار يعلمه الله, وجعلتم أنتم لله مقدارا فقلتم الله بقدر العرش, وقال بعضكم ليس
بقدر العرش بل بقدر بعض العرش, فأهل السنة المباينون لكم هم الأمة هم مئات
الملايين اليوم وهم الأشاعرة والماتُريدية, وأما أنتم معشر المشبهة شرذمة قليلة لا
تتجاوزن نحو مليون.
والآيات المحكمة: هي ما لا يحتمل من التأويل بحسب وضع اللغة إلا وجها واحدا, أو
ما عُرف بوضوح المعنى المراد منه كقوله تعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ
}(11)[سورة الشورى]
:{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ }(4)[سورة الإخلاص], وقوله:{ هَلْ تَعْلَمُ
لَهُ سَمِيًّا }(65)[سورة مريم].
وأما المتشابه: فهو ما لم تتضح دلالته, أو يحتمل أكثر من وجه واحتيج إلى النظر
لحمله على الوجه المطابق, كقوله تعالى:{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوَى}(5)[سورة طه].
وأما قوله تعالى:{ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }(7)[سورة ءال عمران] يحتمل أن
يكون ابتداءً, ويحتمل أن يكون معطوفا على لفظ الجلالة, فعلى الأول المراد
بالمتشابه ما استأثر الله بعلمه كوجبة القيامة وخروج الدجال ونحو ذلك, فأنه لا
يعلم متى وقوع ذلك أحد إلا الله؛ وعلى الثاني: المراد بالمتشابه ما لم يتضح دلالته
من الآيات أو يحتمل أوجها عديدة من حيث اللغة مع الحاجة إلى إعمال الفكر ليحمل على
الوجه المطابق كآية:{ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }(5)[سورة طه], فعلى
هذا القول يكون الراسخون في العلم داخلين في الاستثناء, ويؤيد هذا ما رواه مجاهد
عن ابن عباس أنه قال:{ أنا ممن يعلم تأويله}(4).
قال القشيري في التذكرة الشرقية(5):{ وأما قول الله عز وجل:{ وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ }(7)[سورة ءال عمران] إنما يريد به وقت قيام الساعة,
فإن المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة أيان مرساها ومتى وقوعها,
فالمتشابه إشارة إلى علم الغيب, فليس يعلم عواقب الأمور إلا الله عزّ وجل ولهذا
قال:{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ }(53)[سورة
الأعراف] أي هل ينظرون إلا قيام الساعة. وكيف يسوغ لقائل أن يقول في كتاب الله
تعالى ما لا سبيل لمخلوق إلى معرفته ولا يعلم تأويله إلا الله, أليس هذا من أعظم
القدح بالنبوات, وأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عرف تأويل ما ورد في صفات الله
تعالى ودعا الخلق إلى علم ما لا يعلم, أليس الله يقول:{ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ
مُّبِينٍ }(195)[سورة الشعراء] فإذا على زعمهم يجب أن يقولوا كذب حيث قال:{
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } إذ لم يكن معلوما عندهم, وإلا فأين هذا البيان؛
وإذا كان بلغة العرب فكيف يدعي أنه مما لا تعلمه العرب لما كان ذلك الشيء عربيّا,
فما قول في مقال مآله إلى تكذيب الرب سبحانه.
ثم كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى, فلو كان في
كلامه وفيما يلقيه إلى أمته شيء لا يعلم تأويله إلا الله تعالى, لكان للقوم أن
يقولوا بيّن لنا أوّلا من تدعونا إليه وما الذي تقول, فإن الإيمان بما لا يعلم
أصله غيرُ مُتَأَتّ, ونسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه دعا إلى رب موصوف
بصفات لا تعقل أمر عظيم لا يتخيله مسلم, فإن الجهل بالصفات يؤدي إلى الجهل
بالموصوف, والغرض أن يستبين من معه مُسْكَةٌ من العقل أن قول من يقول:{ استواؤه
صفة ذاتية لا يعقل معناها, واليد صفة ذاتية لا يعقل معناها, والقدَم صفة ذاتية لا
يعقل معناها} تمويه ضمنه تكييف وتشبيه ودعاء إلى الجهل؛ وقد وضح الحق لذي عينين,
وليت شعري هذا الذي ينكر التأويل يَطَّرِدُ هذا الإنكار في كل شيء وفي كل ءاية أم
يقنع بترك التأويل في صفات الله تعالى, فإن امتنع من التأويل أصلا فقد أبطل
الشريعة والعلوم, إذ ما من ءاية وخبر إلا ويحتاج إلى تأويل وتصرف في الكلام إلا ما
كان نحو قوله تعالى:{ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ
}(101)[سورة الأنعام] لأن ثَمَّ أشياء لا بدّ من تأويلها لا خلاف بين العقلاء فيه
إلا الملاحدة الذين قصدهم التعطيل للشرائع, والاعتقاد لهذا يؤدي إلى إبطال ما هو
عليه من التمسك بالشرع بزعمه. وإن قال: يجوز التأويل على الجملة إلا فيما يتعلق
بالله وبصفاته فلا تأويل فيه, فهذا مصير منه إلى أن ما يتعلق بغير الله تعالى يجب
أن يعلم وما يتعلق بالصانع وصفاته يجب التقاصي عنه, وهذا لا يرضى به مسلم؛ وسرّ
الأمر أن هؤلاء الذين يمتنعون عن التأويل معتقدون حقيقة التشبيه غير أنهم يُدلّسون
ويقولون: له يد لا كالأيدي وقدم لا كالأقدام واستواء بالذات لا كما نعقل فيما
بيننا. فليقل المحقق: هذا كلام لا بد من استبيان (6), قولكم نجري الأمر على الظاهر
ولا يعقل معناه تناقض, إن أجريت على الظاهر فظاهر السياق في قوله تعالى:{ يَوْمَ
يُكْشَفُ عَن سَاقٍ }(42)[سورة القلم] هو العضو المشتمل على الجلد واللحم والعظم
والعصب والمخ, فإن أخذت بهذا الظاهر والتزمت بالإقرار بهذه الأعضاء فهو كفر, وإن
لم يمكنك الأخذ بها فأين الأخذ بالظاهر, ألست قد تركتَ الظاهر وعلمت تقدس الرب
تعالى عما يوهم الظاهر, فكيف يكون أخذا بالظاهر؟ وإن قال الخصم: هذه الظواهر لا
معنى لها أصلا, فهو حكم بأنها ملغاة, وما كان في إبلاغها إلينا فائدة وهي هدَر
وهذا محال. وفي لغة العرب ما شئت من التجوز والتوسع في الخطاب, وكانوا يعرفون
موارد الكلام ويفهمون المقاصد, فمن تجافى عن التأويل فذلك لقلة فهمه بالعربية, ومن
أحاط بطرق من العربية هان عليه مدرك الحقائق, وقد قيل{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ
إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ }(7)[سورة ءال عمران]: فكأنه قال:
والراسخون في العلم أيضا يعلمونه ويقولون ءامنا به. فإن الإيمان به غير متأت,
ولهذا قال ابن عباس:{ أنا من الراسخين في العلم}}.اهـ.
فتبين أن قول من يقول إن التأويل غير جائز خبط وجهل, وهو محجوج بقوله صلى الله
عليه وسلم لابن عباس:{ اللهم علمه الحكمة وتأويل الكتاب}(7).
هذا وقد شدّد الحافظ ابن الجوزي الفقيه الحنبلي – وهو حرب على حنابلة المجسمة وما
أكثرهم – في كتابه " المجالس" النكيرَ والتشنيع على من يمنع التأويل ووسّع القول
في ذلك, فمما ورد فيه(8):{ وكيف يمكن أن يقال إن السلف ما استعملوا التأويل وقد
ورد في الصحيح عن سيد الكونين صلى الله عليه وسلم أنه قدّم له ابن عباس وَضوءه
فقال:{ من فعل هذا}, فقال: قلت: أنا يا رسول الله, فقال:{ اللهم فقّهه في الدين
وعلّمه التأويل}, فلا يخلو إما أن يكون الرسول أراد أن يدعو له أو عليه, فلا بد أن
تقول أراد الدعاء له لا دعاءً عليه, ولو كان التأويل محظورا لكان هذا دعاء عليه لا
له. ثم أقول: لا يخلو إما أن تقول: إن دعاء الرسول ليس مستجابا فليس بصحيح, وإن
قلت: إنه مستجاب فقد تركت مذهبك وبَطَل قولك: إنهم ما كانوا يقولون بالتأويل, وكيف
والله يقول:{ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ}(7)[سورة ءال عمران], وقال:{ الم}(1)[سورة
البقرة] أنا الله أعلم, و{ كهيعص}(1)[سورة مريم] الكاف من كافي, والهاء من هادي,
والياء من حكيم, والعين من عليم, والصاد من صادق, إلى غير ذلك من المتشابه}. اهـ.
ثبوت التأويل التفصيلي عن السلف:
والتأويل التفصيلي وإن كان عادة الخلف فقد ثبت أيضا عن غير واحد من أئمة السلف
وأكابرهم كابن عباس من الصحابة, ومجاهد تلميذ ابن عباس من التابعين, والإمام أحمد
ممن جاء بعدهم, وكذلك البخاري وغيره.
أما ابن عباس فقد قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري(9):{ وأما الساق فجاء عن ابن
عباس في قوله تعالى:{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ}(42)[سورة القلم] قال: عن شدة من
الأمر, والعرب تقول قامت الحرب على ساق إذا اشتدت, ومنه:
قد سَنّ أصحابك ضرب الأعناقْ----وقامت الحرب بنا على ساقْ
وجاء عن أبي موسى الأشعري في تفسيرها: عن نور عظيم, قال ابن فورك: معناه ما يتجدد
للمؤمنين من الفوائد والألطاف, وقال المُهَلَّب: كشف ساق للمؤمنين رحمة ولغيرهم
نقمة, وقال الخطابي(10): تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق, ومعنى قول ابن
عباس أن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة, وأسند البيهقي (11) الأثر
المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن وزاد: إذا خفي عليكم شيء من القرءان
فابتغوه من الشعر, وذكر الرجز المشار إليه, وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على
الأمر الشديد:
-----في سنة قد كَشَفَت عن ساقِها}اهـ.
وأما مجاهد فقد قال الحافظ البيهقي(12):{ وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر
القاضي قالا: ثنا أبو العباس محمد ابن يعقوب, حدثنا الحسن بن علي بن عفان, ثنا
أبو أسامة, عن النضر, عن مجاهد في قوله عز وجل:{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ
وَجْهُ اللهِ}(115)[سورةالبقرة] قال: قِبلة الله, فأينما كنت في شرق أو غرب فلا
توجهن إلا إليها}. اهـ.
وأما الإمام أحمد فقد روى البيهقي في مناقب أحمد عن الحاكم, عن أبي عمرو بن
السماك, عن حنبل أن أحمد ابن حنبل تأوّل قول الله تعالى:{ وَجَاء رَبُّكَ
}(22)[سورة الفجرٍ] أنه جاء ثوابه, ثم قال البيهقي:{ وهذا إسناد لا غبار عليه},
نقل ذلك ابن كثير في تاريخه(13).
وقال البيهقي في مناقب أحمد(14):{ أنبأنا الحاكم, قال حدثنا أبو عمرو بن السماك,
قال: حدثنا حنبل بن إسحاق, قال: سمعت عمي أبا عبد الله – يعني أحمد – يقول: احتجوا
عليّ يومئذ – يعني يوم نوظر في دار أمير المؤمنين – فقالوا تجيء سورة البقرة يوم
القيامة وتجيء سورة تبارك فقلت لهم: إنما هو الثواب قال الله تعالى:{ وَجَاء
رَبُّكَ }(22)[سورة الفجرٍ] إنما يأتي قدرته وإنما القرءان أمثال ومواعظ.
قال البيهقي: وفيه دليل على أنه لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول
الذي وردت به السنة انتقالا من مكان إلى مكان كمجيء ذوات الأجسام ونزولها, وإنما
هو عبارة عن ظهور ءايات قدرته, فإنهم لما زعموا أن القرءان لو كان كلام الله وصفة
من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان, فأجابهم أبو عبد الله بأنه إنما يجيء
ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ فعبر عن إظهاره إياها بمجيئه}.اهـ.
وهذا دليل على أن الإمام أحمد رضي الله عنه ما كان يحمل ءايات الصفات وأحاديث
الصفات التي توهم أن الله متحيّز في مكان أو أن له حركة وسكونا وانتقالا من علو
إلى سفل على ظواهرها, كما يحملها ابن تيمية وأتباعه فيثبتون اعتقادا التحيز لله
في المكان والجسمية ويقولون لفظا ما يموهون به على الناس ليظن بهم أنهم منزهون لله
عن مشابهة المخلوق, فتارة يقولون بلا كيف كما قالت الأئمة, وتارة يقولون على ما
يليق بالله. نقول: لو كان الإمام أحمد يعتقد في الله الحركة والسكون والانتقال
لترك الآية على ظاهرها وحملها على المجيء بمعنى التنقل من علو إلى سفل كمجيء
الملائكة وما فاه بهذا التأويل.
وقد روى البيهقي في الأسماء والصفات(15) عن أبي الحسن المقرئ, قال:{ أنا أبو
عمرو الصفار, ثنا أبو عوانة, ثنا أبو الحسن الميموني قال: خرج إليّ يوما أبو عبد
الله أحمد بن حنبل فقال: ادخل, فدخلت منزله فقلت: أخبرني عما كنت فيه مع القوم
وبأيّ شيء كانوا يحتجون عليك؟ قال: بأشياء من القرءان يتأولونها ويفسرونها, هم
احتجوا بقوله:{ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ }(2)[سورة
الأنبياء] قال: قلت: قد يحتمل أن يكون تنزيله إلينا هو المُحدث لا الذكر نفسه هو
المُحدَث. قلت – أي قال البيهقي-: والذي يدل على صحة تأويل أحمد بن حنبل رحمه الله
ما حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك, أنا عبد الله بن جعفر, ثنا يونس ابن
حبيب, ثنا أبو داود, ثنا شعبة, عن عاصم, عن أبي وائل عن عبد الله – هو ابن مسعود –
رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فلم يردّ عليّ
فأخذني ما قََدُمَ وما حَدَث, فقلت: يا رسول الله أحدث فيّ شيء, فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:{ إن الله عز وجلّ يحدث لنبيه من أمره ما شاء, وإن مما أحدث
ألا تكلموا في الصلاة}}. اهـ.
وورد أيضا التأويل عن الإمام مالك فقد نقل الزرقاني(16) عن أبي بكر بن العربي
أنه قال في حديث:{ ينزل ربنا}:{ النزول راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته, بل ذلك عبارة
عن مَلَكِهِ الذي ينزل بأمره ونهيه. فالنزول حسيّ صفة الملك المبعوث بذلك, أو
معنوي بمعنى لم يفعل ثم فعل, فسمى ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة, فهي عربية
صحيحة}. اهـ.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري(17):{ وقال ابن العربي: حكي عن المبتدعة ردّ
هذه الأحاديث, وعن السلف إمرارها, وعن قوم تأويلها وبه أقول. فأما قوله:{ ينزل}
فهو راجع إلى أفعاله لا إلى ذاته, بل ذلك عبارة عن مَلَكِهِ الذي ينزل بأمره
ونهيه, والنزول كما يكون في الأجسام يكون في المعاني, فإن حملته في الحديث على
الحسي فتلك صفة المَلَك المبعوث بذلك, وإن حملته على المعنوي بمعنى أنه لم يفعل ثم
فعل فيسمى ذلك نزولا عن مرتبة إلى مرتبة, فهي عربية صحيحة انتهى. والحاصل أنه
تأوّله بوجهين: إما بأن المعنى ينزل أمره أو المَلَك بأمره, وإما بأنه استعارة
بمعنى التلطّف بالداعين والإجابة لهم ونحوه} انتهى كلام الحافظ, وكذا حكي عن مالك
أنه أوّله بنزول رحمته وأمره أو ملائكته كما يقال فعل المَلِك كذا أي أتباعه
بأمره.
وورد التأويل أيضا عن سفيان الثوري فقد روى الحافظ البيهقي أيضا في الأسماء
والصفات(18) عن أبي عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي, قال:{ أنا أبو الحسن محمد
بن محمود المروزي الفقيه, ثنا أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ, ثنا أبو موسى
محمد بن المثنى, حدثني سعيد بن نوح, ثنا علي ابن الحسن شقيق, ثنا عبد الله بن
موسى الضبي, ثنا معدان العابد قال: سألت سفيان الثوري عن قول الله عزّ وجل:{
وَهُوَ مَعَكُمْ }(4)[سورة الحديد] قال: علمه}.ا.هـ.
وقد ورد أيضا عن الإمام البخاري فقد روى في صحيحه(19) عند قوله تعالى:{ كُلُّ
شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ }(88)[سورة القصص], قال البخاري:{ إلا مُلكه,
ويقال: إلا ما أُريد به وجه الله}. ا.هـ.
وروى أيضا(20) عن أبي هريرة رضي الله عنه:{ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه
وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء, فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:{ من يضم}, أو:{ يضيف هذا؟} فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به إلى امرأته
فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني,
فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء, فهيأت طعامها
وأصبحت سراجها ونوّمت صبيانها, ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته, فجعلا يُريانِه
أنهما يأكلان, فباتا طاويين, فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال:{ ضحك الله الليلة}, أو:{ عجب من فعالكما}. فأنزل الله:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(9)[سورة الحشر].
قال الحافظ ابن حجر(21):{ ونسبة الضحك والتعجّب إلى الله مجازية والمراد بهما
الرضا بصنعيهما}.ا.هـ.
وأوّل البخاري الضحك الوارد في الحديث بالرحمة نقل ذلك عنه الخطابي(22) فقال:{
وقد تأوّل البخاري الضحك في موضع ءاخر على معنى الرحمة وهو قريب, وتأويله على معنى
الرضا أقرب}(23). ا.هـ.
خلاصة ما يتعلق بمسئلة التأويل يقال: هنا مسلكان كل منهما صحيح: الأول مسلك
السلف وهم أهل القرون الثلاثة الأولى أي الغالب عليهم, فإنهم يؤولونها تأويلا
إجماليا بالإيمان بها واعتقاد أن لها معنى يليق بجلال الله وعظمته بلا تعيين, بل
ردوا تلك الآيات إلى الآيات المحكمات كقوله تعالى:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ
}(11)[سورة الشورى].
الثاني: مسلك الخلف: وهم يؤولونها تفصيلا بتعيين معان لها مما تقتضيه لغة العرب
ولا يحملونها على ظواهرها أيضا كالسلف, ولا بأس بسلوكه ولا سيما عند الخوف من
تزلزل العقيدة حفظا من التشبيه.
قال الحافظ ابن دقيق العيد(24):{ نقول في الصفات المشكلة أنها حقّ وصدق على
المعنى الذي أراده الله, ومن تأوّلها نظرنا فإن كان تأويله قريبا على مقتضى لسان
العرب لم ننكر عليه, وإن كان بعيدا توقفنا عنه ورجعنا إلى التصديق مع
التنزيه}.اهـ
فضيحة للألباني
يثبت الألباني لله تعالى معيّة ذاتية مع عباده(25) مع قوله فوق العرش بذاته, ومع
قوله مرة أُخرى: إن الله محيط بالعالم إحاطة ذاتية أي أنه تعالى فوق العالم وتحت
العالم وعلى يمين العالم وعلى يسار العالم بذاته, فكيف ساغ في عقله الجمع بين هذه
التناقضات فهل هذا كلام من له عقل؟!.
فماذا تقول له فرقته لو اطّلعوا على هاتين المقالتين أي القول بالمعية الذاتية
مع عباده المتقين والقول بأنه محيط بالعالم إحاطة ذاتية وهم القائلون بأن من لم
يعتقد أن الله فوق العرش بذاته كافر – وكَذَبوا – أيكفّرونه أم يسكتون عنه لأنه
يوافقهم في أكثر عقائدهم مداهنة.
ثم إن في فتاوى هذا الرجل مقالات بشعة خبيثة تمجها أسماع المؤمنين وكل من يفرق
بين الحق والباطل.
فيا أيها الألباني يا أيها المتذبذب في عقيدته بين ضلالة وضلالة متناقضتين هل
خفي عليك تذبذبك هذا أم أنك تدري ومع هذا تُصِرُّ وذلك أن تعتقد أن الله فوق
العرش بذاته كما تقول طائفتك, وتقول إنه محيط بالعالم من جميع النواحي, وتقول إنه
ينزل من فوق إلى السماء الدنيا بذاته فأدى بكم فساد أفهامكم إلى أن جعلتم النصوص
القرءانية والحديثية متناقضة حيث جعلتم الآيات التي ظواهرها أن الله في جهة فوق
وأنه يتحرك ويسكن وأن له أعضاء محمولة على ظواهرها فاعتقدتم أن الله جسما يتحرك
ويسكن كما أن أجسام المخلوقات كذلك, وأما أهل العدل أهل السنة لم يحملوا هذه
النصوص على ظواهرها بل ردوا الجميع إلى قوله تعالى:{ ليس كمثله شيء}, وقد سميتم
أهل السنة لهذا التأويل معطلة, فكيف استجزتم القول المشهور عندكم التأويل تعطيل
ولم تدروا أن هذا ينطبق عليكم وليس على أهل السنة, فهل عندكم ذنب لأهل السنة غير
أنكم جعلتم تأويلهم لتلك الآيات والأحاديث مردودة إلى آية:{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَىْءٌ }(11)[سورة الشورى] تنزيها لتلك الآيات والأحاديث من التناقض.
أما تخجلون من إطلاق هذا القول "التأويل تعطيل" وقد أوّلتم كل ءاية ظاهرها أن
الله في الأرض وكذلك كل حديث. فقد أوّلتم قول الله تعالى:{ وَللهِ الْمَشْرِقُ
وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}(115)[سورة البقرة],
وأولتم قول الله تعالى إخبارا عن إبراهيم عليه السلام:{ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ
إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ}(99)[سورة الصافات], فلم تأخذوا بظاهره, وأولتم حديث
البخاري(26):{ وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أُحبه فإذا أحببته كنت سمعه
الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها} فلم
تأخذوا بظاهره, وأولتم حديث(27):{ ما تصدّق أحد بصدقة من طيب, ولا يقبل الله إلا
الطيب, إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كفّ الرحمن}, فلم تأخذوا
بظاهر هذا الحديث أن يد المتصدق فوق يد الله, أما قوله تعالى:{ يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ}(10)[سورة الفتح], فقد حملتموه على الظاهر, فما هذا التناقض؟!.
-------------------------------------------------
(1)- و (2)- فتاوى الألباني (ص/522-523)، و انظر أيضًا كتابه المسمى " مختصر
العلو" (ص/23 و ما بعدها).
(3)- أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزكاة: باب قبول الصدقة من الكسب الطيب و
تربيتها.
(4)- الدر المنثور (2/152)، زاد المسير (1/354).
(5)- ذكر ذلك الحافظ اللغوي مرتضى الزبيدي في كتابه إتحاف السادة المتقين
(2/110).
(6)- كذا في الأصل و وجه الكلام لا بد من استبيانه.
(7)- أخرجه ابن ماجه في سننه: المقدمة: فضل ابن عباس رضي الله عنهما.
(8)- كتاب المجالس لابن الجوزي (ص/13).
(9)- فتح الباري (13/428).
(10)- الأسماء و الصفات للبيهقي (ص/345).
(11)- المرجع السابق.
(12)- الأسماء و الصفات (ص/309).
(13)- البداية و النهاية (10/327).
(14)- انظر تعليق الزاهد الكوثري على السيف الصقيل للإمام السبكي (ص/120-121).
(15)- الأسماء و الصفات (ص/235).
(16)- شرح الزرقاني على الموطأ (2/35)، و انظر شرح الترمذي (2/236).
(17)- فتح الباري (3/30).
(18)- الأسماء و الصفات (ص/430).
(19)- صحيح البخاري: كتاب التفسير: باب تفسير سورة القصص، في فاتحته.
(20)- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب المناقب: باب قول الله عز و جل: { و يؤثرون
على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة (9)} [ سورة الحشر ].
(21)- فتح الباري (7/120).
(22)- الأسماء و الصفات (ص/470).
(23)- فتح الباري (6/40).
هوامش فضيحة الألباني:
(24)- فتح الباري (13/383).
(25)- فتاوى الألباني (ص/343).
(26)- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق: باب التواضع.
(27)- تقدم تخريجه.
|
|