بيان معنى العبادة
وأن مجرد التوسل
والاستغاثة والنداء وطلب
ما لم تجر به العادة ليس شركا
اعلم أنه لا دليل حقيقي يدل على عدم جواز التوسل بالأنبياء والأولياء في حال الغيبة أو بعد وفاتهم بدعوى أن ذلك عبادة لغير الله، لأنه ليس عبادة لغير الله مجرد النداء لحيّ أو ميت، ولا مجرد الاستغاثة بغير الله ، ولا مجرد قصد قبر وليّ للتبرك، ولا مجرد طلب ما لم تجر به العادة بين الناس، ولا مجرد صيغة الاستغاثة بغير الله تعالى، أي ليس ذلك شركا ، لأنه لا ينطبق عليه تعريف العبادة عند اللغويين، لأن العبادة عندهم الطاعة مع الخضوع، قال اللغوي (1) الزجاج وهو من أشهرهم : " قوله عز وجل { إياك نعبد(5) } معنى العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع ، ويقال : هذا طريق معبد إذا كان مذللا بكثرة الوطء ، ومعبد إذا كان مطليا بالقطران ن فمعنى { إياك نعبد(5)} : نطيع الطاعة التي يخضع معها " اهـ. ونقل هذا عن اللغوي الأزهري (2) وهو من كبارهم ، وقال مثلهما الفرّاء، وقال بعضهم:" العبادة أقصى غاية الخشوع والخضوع"، وقال بعض:" نهاية التذلل" كما يفهم ذلك من كلام شارح القاموس مرتضى الزبيدي خاتمة اللغويين، وهذا الذي يستقيم لغة وعرفا.
وليس مجرد التذلل عبادة لغير الله وإلا لكفر كل من يتذلل
للملوك والعظماء، وقد ثبت أن معاذ بن جبل لما قدم من الشام سجد لرسول الله
صلى
الله عليه وسلم ، فقال الرسول:" ما هذا"؟ فقال: يا رسول الله إني رأيت
أهل الشام يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، وأنت أولى بذلك، فقال :" لو كنت
ءامرا
أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"(3)، ولم يقل له رسول الله
صلى الله عليه وسلم كفرت، ولا قال له أشركت مع أن سجوده للنبي مظهر كبير
من مظاهر
التذلل. وعن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان في نفر من
المهاجرين
والأنصار فجاء بعير فسجد له فقال أصحابه : يا رسول الله سجد لك البهائم
والشجر
فنحن أحق أن نسجد لك فقال : " اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم " رواه أحمد (4)
وإسناده جيد . فهؤلاء الذين يكفّرون الشخص لأنه قصد قبر الرسول أو غيره من
الأولياء للتبرك فهم جهلوا معنى العبادة وخالفوا ما عليه المسلمون، لأن
المسلمين
سلفا وخلفا لم يزالوا يزورون قبر النبي ،وليس معنى الزيارة للتبرك أن
الرسول يخلق
لهم البركة، بل المعنى أنهم يرجون أن يخلق الله لهم البركة بزيارتهم لقبره.
والدليل على جواز ما قدمنا ما أخرجه البزار (5) من حديث عبد
الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن لله ملائكة
سيّاحين
في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة
بأرض فلاة
فليناد : أعينوا عباد الله ". قال الحافظ الهيثمي (6)" رواه الطبراني
ورجاله ثقات " وحسنه الحافظ ابن حجر في أماليه مرفوعا - أي أنه من قول
الرسول-
وأخرجه الحافظ البيهقي (7) موقوفا على ابن عباس بلفظ:" إن لله عز وجل
ملائكة
سوى الحفظة يكتبون ما سقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة
فليناد: أعينوا
عباد الله يرحمكم الله تعالى ". والرواية الأولى تقوي ما ورد بمعناها من
بعض
الروايات التي في إسنادها ضعف، وقد تقرر عند علماء الحديث أن الضعيف يعمل
به في
فضائل الأعمال والدعوات والتفسير ، كما ذكر الحافظ البيهقي في المدخل .
وروى البيهقي (8) أيضا بإسناد صحيح عن مالك الدار (وكان
خازن عمر) قال:" أصاب الناس قحط في زمان عمر ، فجاء رجل إلى قبر
النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتاه
رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم في المنام فقال: إيت عمر فأقرئه مني السلام وأخبره أنهم يسقون وقل له : عليك بالكيس الكيس،
فأتى الرجل عمر فأخبر عمر فقال :" يا رب ما ءالو إلا ما عجزت" اهـ. وهذا
الرجل هو بلال بن الحرث المزني الصحابي، فهذا الصحابي قد قصد قبر الرسول
للتبرك
فلم ينكر عليه عمر ولا غيره.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (9) ما نصه:" وروى
ابن أبي شيبة بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان عن مالك الدار قال :
أصاب
الناس قحط في زمن عمر فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال :
يا رسول
الله استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، فأتي الرجل في المنام فقيل له : ائت عمر
. . . الحديث.
وقد روى سيف في الفتوح أن الذي رأى المنام المذكور هو بلال بن الحارث
المزني أحد
الصحابة" ا.هـ.
وقال ابن كثير (10) ما نصه:" وقد روينا أن عمر عسّ
المدينة ذات ليلة عام الرمادة فلم يجد أحدا يضحك ، ولا يتحدث الناس في
منازلهم على
العادة ، ولم ير سائلا يسأل ، فسأل عن سبب ذلك فقيل له: يا أمير المؤمنين
إن
السؤال سألوا فلم يعطوا فقطعوا السؤال، والناس في همّ وضيق فهم لا يتحدثون
ولا
يضحكون. فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة أن يا غوثاه لأمة محمد، وكتب إلى
عمرو بن
العاص بمصر أن يا غوثاه لأمة محمد، فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة
تحمل
البر وسائر الأطعمات ، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة ومن جدة إلى مكة.
وهذا
الأثر جيد الإسناد".ا.هـ. وهذا فيه الرد على ابن تيمية لقوله
إنه لا يجوز
التوسل إلا بالحيّ الحاضر، فهذا عمر بن الخطاب استغاث بأبي موسى وعمرو بن
العاص
وهما غائبان.
ثم يقول في الصحيفة التي تليها : وقال سيف بن عمر عن سهل بن
يوسف السلمي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كان عام الرمادة في ءاخر
سنة سبع
عشرة وأول سنة ثماني عشرة أصاب أهل المدينة وما حولها جوع فهلك كثير من
الناس حتى
جعلت الوحش تأوي إلى الإنس، فكان الناس بذلك وعمر كالمحصور عن أهل الأمصار
حتى
أقبل بلال بن الحرث المزني فاستأذن على عمر فقال: أنا رسول رسول الله
إليك، يقول
لك رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لقد عهدتك كيسا، وما زلت على ذلك فما
شأنك". قال: متى رأيت هذا ؟ قال: البارحة، فخرج فنادى في الناس الصلاة
جامعة،
فصلى بهم ركعتين ثم قام فقال: أيها الناس أنشدكم الله هل تعلمون مني أمرا
غيره خير
منه فقالوا: اللهم لا. فقال : إن بلال بن الحرث يزعم ذيت وذيت(11). قالوا
: صدق
بلال فاستغث بالله ثم بالمسلمين ، فبعث إليهم وكان عمر عن ذلك محصورا ،
فقال: الله
أكبر ، بلغ البلاء مدته فانكشف ، ما أذن لقوم في الطلب إلا وقد رفع عنهم
الأذى
والبلاء. وكتب إلى أمراء الأمصار أن أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه
قد بلغ
جهدهم ، وأخرج الناس إلى الاستسقاء ، فخرج وخرج معه العباس بن عبد المطلب
ماشيا ،
فخطب وأوجز وصلّى ثم جثا لركبتيه وقال: الله إياك نعبد وإياك نستعين ،
اللهم اغفر
لنا وارحمنا وارض عنا. ثم انصرف، فما بلغوا المنازل راجعين حتى خاضوا
الغدران.
ثم روى سيف عن مبشر بن الفضيل عن جبير بن صخر عن عاصم بن
عمر بن الخطاب أن رجلا من مزينة عام الرمادة سأله أهله أن يذبح لهم شاة
فقال: ليس
فيهن شىء، فألحوا عليه فذبح شاة فإذا عظامها حمر فقال: يا محمداه. فلما
أمسى أري
في المنام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له :" أبشر بالحياة ، ائت
عمر فأقرئه مني السلام وقل له : إن عهدي بك وفيّ العهد شديد العقد فالكيس
الكيس يا
عمر ". فجاء حتى أتى باب عمر فقال لغلامه: استأذن لرسول الله صلى الله
عليه
وسلم ، فأتى عمر فأخبره، ففزع ثم صعد عمر المنبر فقال للناس : أنشدكم الله
الذي
هداكم للإسلام هل رأيتم مني شيئا تكرهونه ؟ فقالوا: اللهم لا ، وعمّ ذاك؟
فأخبرهم
بقول المزني - وهو بلال بن الحرث - ففطنوا ولم يفطن، فقالوا : إنما
استبطأك في
الاستسقاء فاستسق بنا ، فنادى في الناس فخطب فأوجز ثم صلى ركعتين فأوجز ثم
قال : اللهم
عجزت عنا أنصارنا وعجز عنا حولنا وقوتنا وعجزت عنا أنفسنا ، ولا حول ولا
قوة إلا
بك، اللهم اسقنا وأحي العباد والبلاد.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو نصر بن قتادة وأبو
بكر الفارسي قالا: حدثنا أبو عمرو بن مطر حدثنا إبراهيم بن علي الذهلي،
حدثنا يحيى
بن يحيى ، حدثنا أبو معاوية ،عن الأعمش، عن أبي صالح عن مالك الدار قال:
أصاب
الناس قحط في زمن عمر بن الخطاب فجاء رجل إلى قبر النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: يا
رسول الله استسق الله لأمتك فإنهم قد هلكوا ، فأتاه رسول الله صلى الله
عليه وسلم
في المنام فقال: " ائت عمر فأقرئه مني السلام وأخبرهم أنهم مسقون وقل له:
عليك
بالكيس الكيس "، فأتى الرجل فأخبر عمر فقال:" يا رب ما ءالو إلا ما عجزت
عنه ". هذا إسناد صحيح ".انتهى كلام ابن كثير . وهذا إقرار منه بصحة هذا
الحديث من الحافظ ابن كثير .
الحافظ ولي الدين العراقي شيخ الحافظ ابن حجر يجيز التوسل
قال الحافظ ولي الدين العراقي(12) في شرح حديث : أن موسى
قال : رب أدنني من الأرض المقدسة ومية حجر وان النبي صلّى الله عليه وسلّم
قال :"
والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر" ما
نصه:"وفيه
استحباب معرفة قبور الصالحين لزيارتها والقيام بحقها، وقد ذكر النبيّ صلّى
الله
عليه وسلّم لقبر السيد موسى عليه السلام علامة هي موجودة في قبر مشهور عند
الناس
الآن بأنه قبره ، والظاهر أن الموضع المذكور هو الذي أشار إليه النبيّ
عليه الصلاة
والسلام ، وقد دل على ذلك حكايات ومنامات ، وقال الحافظ الضياء : حدثني
الشيخ سالم
التل قال : ما رأيت استجابة الدعاء أسرع منها عند هذا القبر ، وحدثني
الشيخ عبد
الله بن يونس المعروف بالأرمني أنه زار هذا القبر وأنه نام فرأى في منامه
قبة عنده
وفيها شخص أسمر فسلم عليه وقال له : أنت موسى كليم الله ، أو قال : نبي
الله ،
فقال : نعم ، فقلت : قل لي شيئا ، فأومأ إلي بأربع أصابع ووصف طولهن ،
فإنتبهت فلم
أدر ما قال ، فأخبرت الشيخ ذيالا بذلك فقال : يولد لك أربعة أولاد ، فقلت
: أنا
تزوجت من امرأة فلم أقربها ، فقال : تكون غير هذه ، فتزوجت أخرى فولدت لي
أربعة
أولاد " انتهى .
و ابن
تيمية هو أول من منع التوسل بالنبي عليه السلام كما
ذكر ذلك الفقيه علي السبكي في كتابه شفاء السقام (13) ونص عبارته :" اعلم
أنه
يجوز ويحسن التوسل والاستعانة والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه
سبحانه
وتعالى ، وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين المعروفة من فعل
الأنبياء
والمرسلين وسير السلف الصالحين والعلماء والعوام من المسلمين ، ولم ينكر
أحد ذلك
من أهل الأديان ولا سمع به في زمن من الأزمان حتى جاء ابن تيمية فتكلم في
ذلك
بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر
الأعصار. . .
".اهـ.
قال بعض أهل
العصر في كلام له في الرد على ابن تيمية : فسعي ابن تيمية في منع الناس من
زيارته
صلى الله عليه وسلم يدل على ضغينة كامنة فيه نحو الرسول، وكيف يتصور
الإشراك بسبب
الزيارة والتوسل في المسلمين الذين يعتقدون في حقه عليه السلام أنه عبده
ورسوله
وينطقون بذلك في صلواتهم نحو عشرين مرة في كل يوم على أقل تقدير إدامة
لذكرى ذلك ،
ولم يزل أهل العلم ينهون العوام عن البدع في كل شئونهم ويرشدونهم إلى
السنة في
الزيارة وغيرها إذا صدرت منهم بدعة في شىء ، ولم يعدّوهم في يوم من الأيام
مشركين
بسبب الزيارة أو التوسل ، وكيف وقد أنقذهم الله من الشرك وأدخل في قلوبهم
الإيمان
، وأول من رماهم بالإشراك بتلك الوسيلة هو ابن تيمية وجرى خلفه من أراد
استباحة
أموال المسلمين ودماءهم لحاجة في النفس ، ولم بخف ابن تيمية من الله في
رواية عد
السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم سفر معصية لا تقصر فيه الصلاة عن
الإمام
أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي ، وحاشاه عن ذلك- راجع كتاب التذكرة له تجد
فيه مبلغ
عنايته لزيارة المصطفى صلى الله عليه وسلم والتوسل به كما هو مذهب
الحنابلة - وإنما
قوله بذلك في السفر إلى المشاهد المعروفة بالعراق لما قارن ذلك من البدع
في عهده
وفي نظره، وإليك نص عبارته في التذكرة المحفوظة بظاهرية دمشق: فصل: ويستحب
له قدوم
مدينة الرسول صلوات الله عليه فيأتي مسجده فيقول عند دخوله : بسم الله
اللهم صلّ
على محمد وعلى ءال محمد، وافتح لي أبواب رحمتك، وكف عني أبواب عذابك،
الحمد لله
الذي بلغ بنا هذا المشهد وجعلنا لذلك أهلا ، الحمد لله رب العالمين ، إلى
أن قال: واجعل
القبر تلقاء وجهك وقم مما يلي المنبر وقل: السلام عليك أيها النبي ورحمة
الله
وبركاته ، اللهم صلّ على محمد وعلى ءال محمد إلى ءاخر ما تقوله في التشهد
الأخير ،
ثم تقول: اللهم أعط محمدا الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة والمقام
المحمود الذي
وعدته، اللهم صلّ على روحه في الأرواح وجسده في الأجساد كما بلغ رسالاتك
وتلا
ءاياتك وصدع بأمرك حتى أتاه اليقين، اللهم إنك قلت في كتابك لنبيك صلى
الله عليه
وسلم:{ ولو أنهم إذ ظلموآ أنفسهم جآءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول
لوجدوا
الله توابا رحيما (64)} [ سورة النساء /64) وإني قد أتيت نبيك تائبا
مستغفرا
فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللهم إني
أتوجه إليك
بنبيك صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، يا رسول الله إني أتوجه بك إلى ربي
ليغفر لي
ذنوبي، اللهم إني أسألك بحقه أن تغفر لي ذنوبي، اللهم اجعل محمدا أول
الشافعي
وأنجح السائلين وأكرم الأولين والآخرين ، اللهم كما ءامنا به ولم نره
وصدقناه ولم
نلقه فأدخلنا مدخله واحشرنا في زمرته وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه مشربا
صافيا رويا
سائغا هنيا لا نظمأ بعده أبدا ، غير خزايا ولا ناكثين ولا مارقين ولا
مغضوبا علينا
ولا ضالّين، واجعلنا من أهل شفاعته. ثم تقدم عن يمينك فقل: السلام عليك يا
أبا بكر
الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق ، اللهم أجزهما عن نبيهما وعن الإسلام
خيرا ، {
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } [ سورة الحشر/10] الآية
. وتصلي
بين القبر والمنبر في الروضة ، وإن أحببت تمسح بالمنبر وبالحنانة وهو
الجذع الذي
كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم فلما اعتزل عنه حنّ إليه كحنين الناقة.
وتأتي
مسجد قباء فتصلي لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصده فيصلي فيه، وإن
أمكنك فأت
قبور الشهداء وزرهم وأكثر من الدعاء في تلك المشاهد حتى كأنك إلى مواقفهم
، واصنع
عند الخروج ما صنعت عند الدخول. ا.هـ.
وابن عقيل هذا من أساطين الحنابلة قال ابن تيمية عن كتابه
عمدة الأدلة له إنه من الكتب المعتمدة في المذهب ، ويقال عن كتابه المسمى
بالفنون
إنه في ثمانمائة مجلد.
ومن الدليل أيضا على جواز التوسل بالأنبياء والصالحين حديث
أبي سعيد الخدري الذي حسنه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار (14) وغيره ،
قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا خرج الرجل من بيته إلى الصلاة فقال :
اللهم
إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا
ولا رياء
ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك ، أسألك أن تنقذني من النار وأن
تغفر لي
ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، وكّل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون
له ،
وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته ".
قال الحافظ البغدادي(15) وهو الذي قيل فيه : إن المؤلفين في
كتب الحديث دراية عيال على كتبه ، ما نصه :
" أخبرنا القاضي أبو محمد الحسن بن الحسين بن محمد بن
رامين الأسترباذي ، قال : أنبأنا أحمد بن جعفر حمدان القطيعي قال : سمعت
الحسن بن
إبراهيم أبا علي الخلال يقول : ما همّني أمر فقصدت قبر موسى بن جعفر
فتوسلت به إلا
سهل الله تعالى لي ما أحبّ .
أخبرنا إسماعيل بن أحمد الحيري قال: أنبأنا محمد بن الحسين
السلمي قال: سمعت أبا الحسن بن مقسم يقول: سمعت أبا علي الصفار يقول: سمعت
إبراهيم
الحربي يقول: قبر معروف الترياق المجرّب. أخبرني أبو إسحق إبراهيم بن عمر
البرمكي
قال: نبأنا أبو الفضل عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد الزهري قال: سمعت
أبي يقول:
قبر معروف الكرخي مجرّب لقضاء الحوائج، ويقال: إنه من قرأ عنده مائة مرة {
قل هو
الله أحد (1)} [ سورة الإخلاص/1] وسأل الله تعالى ما يريد قضى الله له
حاجته.
أخبرنا القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري
قال: أنبأنا عمر بن إبراهيم المقري قال: نبأنا مكرم بن أحمد قال: نبأنا
عمر بن
إسحق بن إبراهيم قال: نبأنا علي بن ميمون قال: سمعت الشافعي يقول: إني
لأتيرك بأبي
حنيفة وأجيء إلى قبره في كل يوم - يعني زائرا- فإذا عرضت لي حاجة صليت
ركعتين وجئت
إلى قبره وسألت الله تعالى الحاجة عنده، فما تبعد عني حتى تقضى.
ومقبرة باب البردان ، فيها أيضا جماعة من أهل الفضل ، وعند
المصلّى المرسوم بصلاة العيد كان قبر يعرف بقبر النذور، ويقال: إن المدفون
فيه رجل
من ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتبرك الناس بزيارته، ويقصده ذو
الحاجة منهم
لقضاء حاجته.
حدثني القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: حدثني
أبي قال: كنت جالسا بحضرة عضد الدولة ونحن مخيمون بالقرب من مصلى الأعياد
في
الجانب الشرقي من مدينة السلام نريد الخروج معه إلى همذان في أول يوم نزل
المعسكر،
فوقع طرفه إلى البناء الذي على قبر النذور فقال لي: ما هذا البناء؟ فقلت :
هذا
مشهد النذور ولم أقل قبر لعلمي بطيرته من
دون هذا ، واستحسن اللفظة وقال: قد علمت أنه قبر النذور ، وإنما أردت شرح
أمره،
فقلت: هذا يقال إنه قبر عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن الحسين بن علي
بن أبي طالب،
ويقال: إنه قبر عبيد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، وإن بعض
الخلفاء
أراد قتله خفيا ، فجعلت له هناك زبية وسيّر عليها وهو لا يعلم، فوقع فيها
وأهيل
عليه التراب حيا، وإنما شهر بقبر النذور لأنه ما يكاد ينذر له نذر إلا صح
وبلغ
الناذر ما يريد ولزمه الوفاء بالنذر، وأنا أحد من نذر له مرارا لا أحصيها
كثرة
نذورا على أمور متعذرة، فبلغتها ولزمني النذر فوفيت به، فلم يتقبل هذا
القول وتكلم
بما دل أن هذا إنما يقع منه اليسير اتفاقا ، فيتسوق العوام بأضعافه،
ويسيرون
الأحاديث الباطلة فيه، فأمسكت، فلما كان بعد أيام يسيرة ونحن معسكرون في
موضعنا
استدعاني في غدوة يوم وقال: اركب معي إلى مشهد النذور ، فركبت وركب في نفر
من
حاشيته إلى أن جئت به إلى الموضع ، فدخله وزار القبر وصلى عنده ركعتين سجد
بعدهما
سجدة أطال فيها المناجاة بما لم يسمعه أحد ، ثم ركبنا معه إلى خيمته
وأقمنا أياما
، ثم رحل ورحلنا معه يريد همذان ، فبلغناها وأقمنا فيها معه شهورا، فلما
كان بعد
ذلك استدعاني وقال لي: ألست تذكر ما حدثتني به في أمر مشهد النذور ببغداد،
فقلت: بلى،
فقال: إني خاطبتك في معناه بدون ما كان في نفسي اعتمادا لإحسان عشرتك،
والذي كان
في نفسي في الحقيقة أن جميع ما يقال فيه كذب ، فلما كان بعد ذلك بمدبدة
طرقني أمر
خشيت أن يقع ويتم، وأعملت فكري في الاحتيال لزواله ولو بجميع ما في بيوت
أموالي
وسائر عساكري، فلم أجد لذلك فيه مذهبا ، فذكرت ما أخبرتني به في النذر
لقبر
النذور، فقلت : لما لا أجرّب ذلك، فنذرت إن كفاني الله تعالى ذلك الأمر أن
أحمل
إلى صندوق هذا المشهد عشرة ءالاف درهم صحاحا ، فلما كان اليوم جاءتني
الأخبار
بكفايتي ذلك الأمر ، فتقدمت إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف - يعني
كاتبه - أن
يكتب إلى أبي الريان وكان خليفته ببغداد يحملها إلى المشهد ، ثم التفت إلى
عبد
العزيز وكان حاضرا، فقال له عبد العزيز: قد كتبت بذلك ونفذ الكتاب.ا.هـ.
قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر (16):" حدثني الشيخ
الصالح الأصيل أبو عبد الله محمد بن محمد بن عمر الصفار الإسفرايني أن قبر
أبي
عوانة بإسفرين (17) مزار العالم ومتبرك الخلق ".اهـ.
وفي هذا مع ما حصل من بلال بن الحرث من قصد قبر الرسول
للتبرك والاستعانة به بيان لما كان عليه السلف والخلف من قصد قبور
الأنبياء
والصالحين للتبرك، وأنهم كانوا يرون ذلك عملا حسنا، وفي ذلك نقض زعم ابن
تيمية
و ابن
قيم الجوزية أن زيارة القبر للتبرك شرك، وفي ذلك أيضا بيان واضح أن
هذا كان
عمل المسلمين بلا نكير، إنما التشويش على المتبركين جاء من ابن تيمية
وأتباعه، ولو
تتبعنا شواهد ذلك من كتب المحدثين وغيرهم لطال الكلام جدا ، وهذا الحافظ
ابن عساكر
كانت في عصره شيخ المحدثين في بر الشام كله.
وقد قال الإمام مالك للخليفة المنصور لما حج وزار قبر النبي
صلى الله عليه وسلم وسأل مالكا قائلا :" يا أبا عبد الله أستقبل القبلة
وأدعو
أم أستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: ولم تصرف وجهك عنه وهو
وسيلتك
ووسيلة أبيك ءادم عليه السلام إلى الله تعالى؟ بل استقبله واستشفع به
فيشفعه الله ".
ذكره القاضي عياض في الشفا (18) وساقه بإسناد صحيح، والسيد السمهودي في
خلاصة
الوفا، والعلاّمة القسطلاني في المواهب اللدنية، وابن حجر
الهيتمي في الجوهر المنظم ، وغيرهم.
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة (19): عن عمر رضي الله عنه
قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لما اقترف ءادم الخطيئة قال:
يا رب أسألك بحق محمد إلا ما غفرت لي، فقال الله عز وجل : يا ءادم كيف
عرفت محمدا
ولم أخلقه ، قال: لأنك يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا
إله إلا الله محمدا رسول الله ، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق
إليك"
الحديث، ورواه الحاكم (20) وصححه، ووصفه السبكي بأنه جيد(21)، وأخرجه
الطبراني في
الأوسط (22)الصغير (23).
وروى البخاري في كتاب الأدب المفرد (24) عن عبد الرحمن بن
سعد قال:" خدرت رجل ابن عمر فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك فقال: يا
محمد،
فذهب خدر رجله" ا.هـ.
وفي كتاب الحكايات المنثورة للحافظ الضياء المقدسي الحنبلي
، أنه سمع الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي يقول: إنه خرج في عضده شىء
يشبه
الدمّل فأعيته مداواته ، ثم مسح به قبر أحمد بن حنبل فبرئ ولم يعد إليه ،
وهذا
الكتاب بخط الحافظ المذكور محفوظ بظاهرية دمشق.
وأخرج أحمد في المسند (25) بإسناد حسن كما قال الحافظ ابن
حجر (26) أن الحرث بن حسان البكري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"
أعوذ
بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد". ولفظ الحديث كما في مسند أحمد:
حدثنا
عبد
الله حدثني أبي ثنا زيد بن الحباب قال حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان
النحوي قال
ثنا عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن الحرث بن يزيد البكري (27) قال:
خرجت أشكو
العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة فإذا
عجوز من
بني تميم منقطع بها ، فقالت لي: يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله
عليه
وسلم حاجة فهل أنت مبلغي إليه ، قال: فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد
غاص بأهله ، وإذا راية سوداء تخفق وبلال
متقلد
السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما شأن الناس،
قالوا: يريد
أن يبعث عمرو بن العاص وجها، قال: فجلست، قال: فدخل منزله أو قال: رحله،
فاستأذنت
عليه فأذن لي فدخلت فسلمت ، فقال: هل كان بينكم وبين بني تميم شىء، قال:
فقلت نعم،
قال: وكانت لنا الدبرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني
أن
أحملها إليك، وها هي بالباب ، فأذن لها فدخلت، فقلت: يا رسول الله إن رأيت
أن تجعل
بيننا وبين بني تميم حاجزا فاجعل الدهناء، فحميت العجوز واستوفزت قالت: يا
رسول
الله فإلى أين تضطر مضرك؟ قال: قلت إنما مثلي ما قال الأول: معزاء حملت
حتفها،
حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد
عاد، قال: هيه
وما وافد عاد؟ - وهو أعلم بالحديث منه ولكن يستطعمه - قلت: إن عادا قحطوا
فبعثوا
وافدا لهم يقال له قيل، فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر
وتغنيه
جاريتان يقال لهما الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة فنادى:
اللهم إنك
تعلم أني لم أجىء إلى مريض فأداويه ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا
ما كنت
تسقيه، فمرت به سحابات سود فنودي منها اختر، فأومأ إلى سحابة منها سوداء
فنودي
منها: خذها رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا، قال: فما بلغني أنه بعث
عليهم من
الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا ، قال أبو وائل : وصدق،
قال: فكانت
المرأة والرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا: لا تكن كوافد عاد. ا.هـ.
فماذا يقول هؤلاء الجاعلون التوسل بالنبي شركا في إيراد
أحمد بن حنبل لهذا الحديث أيجعلونه مقررا للشرك أم ماذا يقولون؟
قال ابن الحاج المالكي المعروف بإنكاره للبدع في كتابه
المدخل
(28) ما نصه : فالتوسل به عليه الصلاة والسلام هو محل حط أحمال الأوزار
وأثقال
الذنوب والخطايا لأن بركة شفاعته عليه الصلاة والسلام وعظمها عند ربه لا
يتعاظمها
ذنب، إذ إنها أعظم من الجميع ، فليستبشر من زاره ويلجأ إلى الله تعالى
بشفاعة نبيه
عليه الصلاة والسلام من لم يزره ، اللهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك
ءامين يا
رب العالمين.
ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم ، ألم يسمع قول الله عز
وجل:{
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فآستغفروا الله وآستغفر لهم الرسول لوجدوا
الله
توابا رحيما (64)}[ سورة النساء ]. فمن جاءه ووقف ببابه وتوسل به وجد الله
توابا
رحيما ، لأن الله عز وجل منزه عن خلف الميعاد وقد وعد سبحانه وتعالى
بالتوبة لمن
جاءه ووقف ببابه وسأله واستغفر ربه، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلا جاحد
للدين
معاند لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، نعوذ بالله من الحرمان . ا.هـ.
كلام ابن
الحاج.
وأخرج الطبراني في معجميه الكبير (29) والصغير (30) عن
عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان
لا
يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك فقال :
ائت
الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم قل :" اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا
محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي عز وجل لتقضى لي حاجتي "
وتذكر
حاجتك ورح حتى أروح معك فانطلق الرجل فصنع ما قال عثمان له ثم أتى عثمان
بن عفان ،
فجاء البواب فأخذه بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه على الطنفسة
فقال: ما
حاجتك ، فذكر له حاجته فقضاها له ، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه
الساعة،
وقال له: ما كان لك حاجة فأتنا ، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن
حنيف فقال
له: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت حتى كلّمته فيّ ، فقال
عثمان
بن حنيف : والله ما كلّمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد
أتاه ضرير
فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :" أو تصبر" فقال:
يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له النبي :" ائت الميضئة
فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات "، قال عثمان بن حنيف : فوالله
ما
تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط. قال
الطبراني: والحديث
صحيح.
ففيه دليل على أن
الأعمى توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في غير حضرته ، بل ذهب إلى الميضأة
فتوضأ
وصلى ودعا باللفظ الذي علمه رسول الله ، ثم دخل على النبي صلى الله عليه
وسلم
والنبي لم يفارق مجلسه لقول راوي الحديث عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا
وطال بنا
المجلس حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط (31).
فإن قيل: إن الطبراني لم يصحح بقوله:" والحديث صحيح"
إلا الأصل وهو ما حصل بين النبي والأعمى ويسمى مرفوعا ، وأما ما حصل بين
عثمان بن
حنيف وذلك الرجل فلا يسمى حديثا لأنه حصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم
وإنما يسمى
موقوفا.
فالجواب: أن علماء الحديث يطلقون الحديث على المرفوع
والموقوف، وقد نص على ذلك غير واحد منهم كابن حجر العسقلاني (32) وابن
الصلاح (33)، وفي كتاب فتاوى الرملي (34) ما
نصه :"
سئل عن تعريف الأثر فأجاب : إن تعريف الأثر عند المحدثين هو الحديث سواء
أكان
مرفوعا أو موقوفا وإن قصره بعض الفقهاء على الموقوف"ا.هـ. فدعوى الألباني
وبعض تلامذته وحملهم قول الطبراني :" والحديث صحيح" على ما حصل للأعمى
مع رسول الله دون ما حصل للرجل مع عثمان بن حنيف دعوى باطلة مخالفة لقواعد
الاصطلاح.
ذكر المناوي (35) في حديث:" اللهم إني أسألك وأتوجه
إليك بنبيك محمد نبي الرحمة " ما نصه: " قال ابن عبد السلام : ينبغي
كونه مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلم وأن لا يقسم على الله بغيره من
الأنبياء
والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته وأن يكون مما خص به، قال
السبكي: يحسن
التوسل والاستعانة والتشفع بالنبي إلى ربه ، ولم ينكر ذلك أحد من السلف
ولا الخلف
حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله
عالم قبله
وصار بين أهل الإسلام مثلة .اهـ.
ومما يدل على جواز التوسل أيضا ما رواه البخاري (36) ومسلم
(37)
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت
رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول :" انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى أواهم
المبيت
إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا: إنه لا
ينجيكم من
هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ، قال رجل منهم: اللهم كان لي
أبوان
شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوما
فلم أرح
عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما (38) فوجدتهما نائمين فكرهت أن
أوقظهما وأن
أغبق قبلهما أهلا أو مالا ، فلبثت والقدح
على يديّ أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي،
فاستيقظا
فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنا ما نحن فيه
من هذه
الصخرة ، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه"، الحديث. فإذا كان التوسل
بالعمل الصالح جائزا فكيف لا يصح بالذوات الفاضلة كذوات الأنبياء ، فهذا
يكفي
دليلا لو لم يكن دليل سواه للتوسل بالأنبياء والأولياء.
وذكر المرداوي الحنبلي أيضا في كتاب الإنصاف (39) تحت عنوان
فوائد ما نصه:" ومنها( أي ومن
الفوائد) يجوز التوسل بالرجل الصالح على الصحيح من المذهب وقيل يستحب"
اهـ. فماذا
يقول هؤلاء عن المذهب الحنبلي الذي قرر أن التوسل بالنبي بعد موته سنة على
رأي ،
وجائز فقط على رأي فهل يكفرون الحنابلة؟ وما معنى اعتزاز هؤلاء بأحمد مع
أن أحمد
في واد وهم في واد ءاخر؟ وقد قال الإمام أحمد للمروالروذي (40):" يتوسل-
أي
الداعي عند القحط وقلة المطر أو انقطاعه - بالنبي صلى الله عليه وسلم في
دعائه"
اهـ.
وفي كتاب إتحاف السادة المتقين (41) بشرح إحياء علوم الدين
ما نصه:" وكان صفوان بن سليم المدني أبو عبد الله ، وقيل أبو الحارث
القرشي
الزهري الفقيه العابد وأبوه سليم مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال
أحمد: هو
يستسقى بحديثه وينزل القطر من السماء بذكره ، وقال مرة: هو ثقة من خيار
عباد الله
الصالحين ، قال الواقدي وغيره مات سنة واثنتين وثلاثين عن اثنتين وسبعين
سنة ا.هـ.
أي أنه توفي قبل أن يولد الإمام أحمد. فهذا احمد لم يقل يستسقى بدعائه كما
يقول
ابن تيمية إن التوسل بدعاء الشخص لا بذاته ولا بذكره ، بل جعل أحمد سببا
لنزول
المطر ، فمن أين تحريم ابن تيمية للتوسل بالذوات الفاضلة؟
وفي فتاوى شمس الدين الرملي (42) ما نصه :" سئل عما
يقع من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان، يا رسول الله ، ونحو
ذلك من
الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين فهل ذلك جائز
أم لا؟
وهل للرسل والأنبياء والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثة بعد موتهم ؟
وماذا يرجح
ذلك؟
فأجاب: بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء
والعلماء والصالحين جائزة ، وللرسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة
بعد
موتهم، لأن معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم، أما
الأنبياء فلأنهم
أحياء في قبورهم يصلون ويحجون كما وردت به الأخبار وتكون الإغاثة منهم
معجزة لهم،
وأما الأولياء فهي كرامة لهم فإن أهل الحق على أنه يقع من الأولياء بقصد
وبغير قصد
أمور خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم"ا.هـ. أما قوله:
" ويحجون" فإنه لم يثبت في السنة .
قال نور الدين ملا علي القاري في شرح المشكاة ما نصه: قال
شيخ مشايخنا علامة العلماء المتبحرين شمس الدين بن الجزري في مقدمة شرحه
للمصابيح :
إني زرت قبره بنيسابور (يعني مسلم بن الحجاج القشيري) وقرأت بعض صحيح علي
سبيل
التيمن و التبرك
عند قبره ورأيت ءاثار البركة ورجاء الإجابة في تربته.ا.هـ.
فإن قيل: أليس في حديث :" إذا مات الإنسان انقطع عمله
إلا من ثلاث" دلالة على أن الميت لا ينفع غيره.
فالجواب: أنه ليس في الحديث الذي رواه ابن حبان (43)
:" إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به
أو
ولد صالح يدعو له" دلالة على أن الميت لا ينفع غيره، إذ إن الحديث نفى
استمرار العمل التكليفي الذي يتجدد به للميت ثواب، أما أن ينفع غيره فغير
ممنوع
بدليل أن سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم قال لمحمد عليه الصلاة والسلام في
حديث
المعراج :" ارجع فسل ربك التخفيف" (44)، وهذا نفع كبير لأمة محمد كان
بعد موت موسى بسنين عديدة.
فإن قيل : أليس في توسل عمر بالعباس (45) بعد موت النبي ما
يدل على أنه لا يتوسل بالنبي بعد موته.
فالجواب : أن توسل عمر بالعباس بعد موت النبي ليس لأن
الرسول قد مات بل كان لأجل رعاية حق قرابته من النبي صلى الله عليه وسلم،
بدليل
قول العباس حين قدمه عمر: اللهم إن القوم توجهوا بي إليك لمكاني من نبيك"،
روى هذا الأثر الزبير بن بكار.
وروى الحاكم (46) أيضا أن عمر رضي الله عنه خطب الناس
فقال:"
أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى للعباس ما يرى الولد
لوالده،
يعظمه ويفخمه ويبر قسمه، فاقتدوا أيها الناس برسول الله صلى الله عليه
وسلم في عمه
العباس واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم"، وهذا يوضح سبب توسل عمر
بالعباس.
وأيضا فإت ترك الشىء لا يدل على منعه كما هو مقرر في كتب
الأصول، فترك للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم لا دلالة فيه أصلا على منع
التوسل
إلا بالحي الحاضر، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا من المباحات
فهل دل
تركه لها على حرمتها؟
وقد أراد سيدنا عمر بفعله ذلك أن يبين جواز التوسل بغير
النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الصلاح ممن ترجى بركته، ولذا قال الحافظ
في الفتح(47)
عقب هذه القصة ما نصه:" يستفاد من قصة العباس استحباب الاستشفاع بأهل
الخير
والصلاح وأهل بيت النبوة"ا.هـ.
فإن قيل: أليس في حديث ابن عباس الذي رواه لترمذي (48)
" إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" ما يدل على عدم جواز
التوسل بغير الله؟
فالجواب: أن هذا ليس فيه معارضة ما ذكرنا إذ إن المتوسل
يسأل الله ، والحديث ليس معناه لا تسأل غير الله ولا تستعن بغير الله،
إنما معناه
أن الأولى بأن يسأل ويستعان به هو الله تعالى، نظير ذلك قوله صلى الله
عليه وسلم:"
لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي" رواه ابن حبان (49) ، فكما
لا
يفهم من هذا الحديث عدم جواز صحبة غير المؤمن وعدم جواز إطعام غير التقي
وإنما
يفهم منه أن الأولى بالصحبة المؤمن وبالإطعام التقي ، كذلك حديث ابن عباس
لا يفهم
منه إلا الأولوية ، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل لا تسأل
غير الله
ولا تستعن بغير الله، أليس هناك فرق بين أن يقال: لا تسأل غير الله وبين
أن يقال: إذا
سألت فاسأل الله؟
قال الحافظ ابن حجر في قصائده المسماة النيرات السبع :
يا سيد الرسل الذي منهاجه
حاو كمال الفضل والتهذيب
الى أن قال:
فاشفع لمادحك الذي بك يتقي
أهوال يوم الدين والتعذيب
فلأحمد بن علي الأثري في
مأهول مدحك نظم كل غريب
قد صح أن ضناه زاد وذنبه
أصل السقام وانت خير طبيب
ثم قال في قصيدة أخرى :
يا سيدي يا رسول الله قد شرُفت
قصائدي بمديح فيك قد رصفا
الى أن قال :
بباب جودك عبد مذنب كلف
يا أحسن الناس وجها مشرقا ووقفا
بكم توسل يرجو العفو عن زلل
من خوفه جفنه الهامي لقد ذرفا
وإن يكن نسبة بعزى الى حجر
فطالما فاض عذبا طيبا وصفا
ثم قال في قصيدة أخرى :
اصدح بمدح المصطفى واصدع به
قلب الحسود ولا تخف تفنيدا
واقصد له واسأل به تعط المنى
وتعيش مهما عشت فيه سعيدا
خير الأنام ومن لجا لجنابه
لا بدع أن أضحى به مسعودا
ثم قال في قصيدة أخرى:
فما تبلغ الأشعار فيه ومدحه
به ناطق نص الكتاب وناقل
الى أن قال:
ولي إن توسلت الهناء بمدحه
لأني مستجد هناك وسائل
ثم قال في قصيدة أخرى:
فإن أحزن فمدحك لي سروري
وإن أقنط فحمدك لي رجائي
ثم قال في قصيدة أخرى:
نبي براه الله أشرف خلقه
وأسماه إذا سماه في الذكر أحمدا
فرج نداه إنه الغيث في الندى
وخف من سطاه إنه الليث في العدا
ثم قال في قصيدة أخرى:
وإن قنطت من العصيان نفس
فباب محمد باب الرجاء
وذكر الحافظ السخاوي(50) أن الشمس محمد بن علي القوصي
الشافعي أرسل معه رسالة ليقرأها السخاوي لسيد المرسلين لكن لم يتوفق
للسخاوي
تبليغها إلا بعد موته جاء فيها:
عسى تبلغ الآمال منه بنظرة
إلي فإن يفعل بفوز ألاقه
وهكذا يتبين لكل منصف ان التوسل جائز وان الوهابية فرقة شذت عن المسلمين
وحرمت التوسل. التوسل جائز رغما عن انوف الوهابية.
(1) تفسير القرءان
للزجاج
(2) تهذيب اللغة
(2/234).
(3) أخرجه البيهقي في سننه (7/291، 292) وأخرجه ابن ماجه في
سننه : كتاب النكاح : باب حق الزوج على المرأة ، وقال الحافظ البوصيري في
المصباح (1/324):
رواه ابن حبان في صحيحه . وقال السندي: كأنه يريد أنه صحيح الإسناد.اهـ.
وانظر
الإحسان (6/186-187).
(4) مسند احمد (6/76)
(5) كشف الأستار عن زوائد البزار (4/34).
(6) مجمع الزوائد (10/132).
(7) شعب الإيمان (1/445).
(8) انظر البداية والنهاية (7/ 91-92)
(9) فتح الباري شرح صحيح البخاري (2/495-496)
(10) البداية والنهاية (7/90).
(11) معناه كيت و كيت.
(12) طرح التثريب (ص/160)
(13) شفاء السقام (ص/160).
(14) نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار .( مخطوط).
(15) تاريخ بغداد (1/122-125)
(16) وفيات الأعيان (6/394)
(17) بُليدة حصينة من نواحي نيسابور ، معجم البلدان(1/177)
(18) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/92- 93).
(19) دلائل النبوة (5/489).
(20) مستدرك الحاكم ، كتاب التاريخ (2/615).
(21) انظر شفاء السقام ص/163.
(22) عزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد (8/253) وقال: وفيه
من لم أعرفهم .
(23) المعجم الصغير (ص/355).
(24) الأدب المفرد (ص/324).
(25) مسند أحمد ( 3/ 481- 452).
(26) فتح الباري (8/579)
(27) الحارث بن حسان البكري ويسمى الحارث بن يزيد البكري
كما في الإصابة للحافظ ابن حجر العسقلاني.
(28) المدخل (1/259-260)
(29) المعجم الكبير (9/17- 18).
(30) المعجم الصغير (ص/201- 202).
(31) المعجم الكبير للطبراني (9/17- 18)، والمعجم الصغير له
أيضا، ( ص/201- 202). قال الطبراني : والحديث صحيح.
(32) تدريب الراوي (1/42).
(33) مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث (ص/23).
(34) فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي
(4/
371).
(35) فيض القدير (2/134).
(36) صحيح البخاري: كتاب البيوع: باب إذا اشترى شيئا لغيره
بغير إذنه فرضي.
(37) صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار:
باب
قصة أصحاب الغار الثلاثة ، والتوسل بصالح الأعمال.
(38) الغبوق: الطعام الذي يكون في النصف الأخير من النهار
كالذي يؤكل العصر.
(39) الإنصاف (2/456).
(40) الإنصاف (2/456).
(41) إتحاف السادة المتقين (10/130).
(42) فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى لابن حجر
الهيتمي(4/382).
(43) صحيح ابن حبان ، فصل في الموت وما يتعلق به من راحة
المؤمن وبشراه وروحه وعمله مالثناء عليه ، انظر الإحسان (5/9).
(44) صحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب الإسراء برسول الله صلى
الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات.
(45) صحيح البخاري ، كتاب فضائل الصحابة: باب ذكر العباس بن
عبد المطلب.
(46) مستدرك الحاكم، كتاب معرفة الصحابة(3/334) من حديث
داود بن عطاء المدني عن زيد بن أسلم عن ابن عمر. قال الذهبي في التلخيص :
هو في
جزء البانياسي بعلو، وصح نحوه من حديث أنس، فأما داود فمتروك. قلت : تابعه
عليه
هشام بن سعد أخرجه البلاذري من طريقه عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر، انظر
الفتح
(2/497)
(47) فتح الباري (2/497)
(48) جامع الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع : باب
(59) . قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح .
(49) صحيح ابن حبان : كتاب البر والاحسان : باب الصحبة
والمجالسة ، راجع الإحسان (1/383-385)
(50) وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام (2/777)