القدر المعلق
القدر المعلق
ليُعلم أنّ مشيئة الله وتقديره لا يتغيّران لأنّ التغيّر مستحيلٌ على الله.
وأما حديث: "لا يردّ القدر إلا الدعاء"، فهذا راجع إلى القدر المعلّق ليس إلى القدر المُبرم.
ويناسب هنا إيراد عبارة البيهقي في كتابه القضاءُ والقدرُ * حديث عليّ بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سرَّهُ أن يمُدَّ الله في عمره ويوسّع له رزقه ويدفع عنه مِيتَة السوء فليتقّ الله وليصِل رحمه" [1].
قال الشيخ [يعني البيهقي]: وتفسير ذلك وما قبله في قول ابن عباس، أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي قالا حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أبو جعفر محمد بن عبيد الله بن المنادي حدثنا شجاع بن الوليد حدثنا أبو سلمة عمرو بنُ الجُون الدالانيُّ عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: "إن الحذرَ لا يُغني من القدَر، وإنّ الدعاء يدفع القدر وهو إذا دفع القدر فهو من القدَر" ا.هـ وروى البيهقي من طريق عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بِسَرْغٍ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الخطاب وأصحابه فأخبروه أنّ الوباء وقع بالشام وساق الحديث في استشارته إياهم واختلافهم عليه إلى أن قال فنادى عمر بالناس إني مُصبحٌ على ظهر أي راجعٌ إلى المدينة فأصبِحوا عليه أي انووا أننا صباحًا نعود إلى المدينة فقال أبو عبيدة أفِرارًا من قدر الله، فقال عمر لو قالها غيرك يا أبا عبيدة، نعم نَفِر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبلٌ فهبطت واديًا له عُدوتان إحداهما خصبةٌ والأخرى جدبةٌ أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله، قال فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا في بعض حاجاته فقال إن عندي من هذا علمًا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرضٍ -يعني الطاعون- فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه" قال فحمد الله عمر ثم انصرف اهـ قال البيهقي قال أصحابنا هذا الخبر إنّ أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه استعمل الحذر وأثبت القدر معًا، وهو طريق السنة ونهج السلف الصالح رحمة الله عليهم والذي روينا لا ينفع حذرٌ من قدر معناه فيما كتب من القضاء المحتوم كما لا ينفع الدعاء والدواء في رد الموت إذا جاء الأجل المكتوب المحتوم في أم الكتاب.
قال البيهقي وحدثنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ حدثنا حامد بن محمود حدثنا إسحق بن سليمان الرازي حدثنا حنظلة عن طاوس عن ابن عباس قال: "لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله عزّوجل يمحو بالدعاء ما شاء من القدر" انتهى.
أي المقدور لأنّ القدر بمعنى تقدير الله لا يدخله المحو لأنه أزليٌّ.
وروي عن أبي حكيمة عن أبي عثمان النهدي قال سمعت عمر بن الخطاب وهو يطوف بالكعبة يقول: اللهم إن كنت كتبتني في السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليّ الشقاوة والذنب والمَقت فامحني وأثبتني في السعادة {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِْ} انتهى [2].
هكذا رواه حمّاد بن سلمة عن أبي حكيمة وبمعناه رواه هشام الدستوائي عن أبي حكيمة مختصرًا وقال: "فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب" انتهى.
فإن صحة شيء من هذا فمعناه يرجع إلى ما ذكرنا من محو العمل والحال [3].
وتقدير قوله: اللهم إن كنت كتبتني أعمل عمل الأشقياء وحالي حال الفقراء برهة من دهري فامح ذلك عني بإثبات عمل السعداء وحال الأغنياء، واجعل خاتمة أمري سعيدًا موفقًا للخير فإنك قلت في كتابك: {يَمْحُو الله ما يَشاء} يقول يثبت ما يشاء لا يُبدله {وعِنْدِه أمُّ الكتاب} يقول: جملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ وما يُبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب، هذا أصحّ ما قيل في تأويل هذه الآية وأجراه على أصول * [4]، وعلى مثل ذلك حملها الشافعي رحمه الله، ومن أهل العلم من زعم أن المراد بالزيادة في العمر نفي الآفات عنه والزيادة في عقله وفهمه وبصيرته. انتهى كلام البيهقي.
فانظر أيها الطالب الوقوف على الحقيقة وتأمل أن الألفاظ المروية عن قتادة وابن مسعود وعمر وابن عباس ليس فيها هذه الكلمات التي اعتاد الناس قراءتها في ليلة النصف من شعبان إنما المذكورُ في ذلك بعض ما يقرءونه.
واعلم أن البيهقي لم يُصحح شيئا من هذه الروايات وقد أتى بصيغة التردد فيما روى عن عمر للدلالة على عدم ثبوته، وترجيحه أن يكون المعنى المراد بالآية الناسخ والمنسوخ دليل على أنه لم يثبت عنده ما سوى ذلك.
وأنت قد رايت أن البيهقي لم يعرّج على الكلمة التي اعتادوها وهي: "اللهم إني أسألك بالتجلي الأعظم في ليلة النصف من شعبان المكرم التي يفرق فيها كل أمر حكيم ويبرم" بالرّة، بل الصحيح أن تلك الليلة هي ليلة القدر كما يُفهم ذلك من قول الله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة} سورة الدخان، {إنّا أنزلناه في ليلة القدر} سورة القدر.
وإنما الذي ورد في الحديث الصحيح: "يطلع الله إلى خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" رواه ابن حبان في صحيحه، والمشاحن معناه الذي بينه وبين مسلم ءاخر عداوةٌ وحقدٌ وبغضاء لأمر الدنيا، أما من سوى هذين فكل المسلمين يغفر لهم يغفر لبعض جميع ذنوبهم ولبعضٍ بعض ذنوبهم.
فلا تكن أسير التقليد في غير معنى.
____________________
الهامش
[1]: أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل فذ زوائد "مسند أحمد".
[2]: كل هذا لم يثبت إنما اورده لأنه رُوي.
[3]: يعني ليس محو صفة الله ليس محو مشيئة الله وعِلمه هذا يؤوّل على هذا الوجه من محو العمل أي عمل العبد والحال أي حال العبد، ومعنى كلامه كل هذا لم يثبت ولو صح لكان معناه كما شرحنا.
[4]: يعني بالأصول قواعد العقيدة هذا يوافق قواعد العقيدة أي نسخُ بعض القرءان وإثبات بعض.
مواضيع ذات صلة
|
|
|
|
|
|