الإيمان بالقدر
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد.
أما بعد، فقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}.
ليعلم أنّ الإيمان بالقدر هو من أهم مسائل أمور الدين لأنّ المخالفة لأهل الحقّ فيه يوقع الكفر الذي هو سبب للخلود الأبدي في النار.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لمّا جاءه جبريل عليه السلام يسأله عن بيان الإسلام والإيمان والإحسان أجابه عن الإيمان بقوله: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه" فقال له سيدنا جبريل: "صدقت". رواه مسلم.
فبيّن لنا النبي أن الإيمان من جملته الإيمان بأن المقدور الذي منه ما هو خير ومنه ما هو شر وجد بتقدير الله تبارك وتعالى وخلقه فمن أنكر ذلك لا يكون مؤمنا.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: "من أعظم أصول الإيمان القدر، فمن أنكره فقد كفر"، وروى البيهقي رحمه الله في أمر القدر عن عطاء بن السائب عن ميسرة عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: "إنّ أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقينا غير ظن أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ويقرّ بالقدر كله" معناه لا يجوز أن يؤمن ببعض القدر ويكفر ببعض بل يجب على كل مسلم أن يؤمن بأنّ كلّ ما يجري في الكون من خير أو شر، ضلالة أو هدى، عسر أو يسر، حلو أو مر، كلّ ذلك بخلق الله ومشيئته حدث وكان، ولولا أنّ الله تعالى شاء وجوده وكوّنه وخلقه ما حصل، ويؤيد ذلك ما رواه أبو حنيفة عن الهيتم عن الشعبي عن علي أنه خطب الناس على منبر الكوفة فقال: "ليس منّا من لم يؤمن بالقدر خيره وشرّه" أي لا يكون مسلما الذي لا يؤمن بالقدر كلّه خيره وشرّه كما قال الإمام الحسن البصريّ: "من كذّب بالقدر فقد كفر".
وأما الإمساك عن القدر الذي هو مطلوب بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ذكر القدر فامسكوا" رواه الطبرانيّ في الكبير فقد بيّنه كلام سيدنا عليّ رضي الله عنه عندما قال للسائل عن القدر: "سرّ الله فلا تتكلف" فلمّا ألحّ عليه قال له: "أمّا إذا أبيت فإنّه أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض" فعلم من كلام سيدنا عليّ أنّ الخوض في القدر للوصول إلى سرّه هو الممنوع الذي نهى عنه النبي فإنّ القدر بحر لا سفينة له، وهذا معنى قول الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله في عقيدته التي ذكر أنها بيان عقيدة أهل السنة والجماعة "وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه لم يطّلع على ذلك ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل وأما معرفة ما بيّنه سيّدنا عليّ فإنّه واجب.
والقدر بمعنى التقدير كما ذكر في كتاب الإرشاد للجويني وقال الزّجاج وهو لغوي: “والتقدير هو التدبير" وهو جعل كلّ شىء على ما هو عليه، وروى بعضهم عن الشافعي أنه المشيئة، قال البيهقي في مناقب الشافعيّ بإسناده إلى ربيع المرادي سئل الشافعي عن القدر فقال:
ما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن
خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى والمسنّ
على ذا مننت وهذا خذلت وهذا أعنت وذا لم تعن
فمنهم شقي ومنهم سعيد وهذا قبيح وهذا حسن
هذا كان جواب الشافعي لتفسير القدر وحاصله أنّ القدر هو مشيئة الله تعالى التابعة لعلمه أي الموافقة لعلمه لأنّ المشيئة لا تخالف العلم فما شاء الله حصوله علم حصوله فلا بدّ أن يحصل.
فقوله: "ما شئت كان وإن لم أشأ" أي ما شاء الله تعالى دخوله في الوجود كان أي وجد ولا أحد يمنع نفاذ هذا المشيئة لا دعوة داع ولا صدقة متصدق ولا برّ والدين ولا شىء من الحسنات، إنما ينفع الدعاء والصدقة وبرّ الوالدين وصلة الرحم إن كان سبق القدر أنّ هذا الإنسان يفعل هذه الدعوة أو يتصدق أو يبر والديه أو يصل رحمه فتعطى ما طلبه أو يدفع عنه ما طلب أن لا يصيبه فهناك صار دعاؤه من القدر ونيله لطلبه من القدر وكذلك انصراف البلاء الذي طلب من الله أن لا يصيبه من القدر، كلّ من القدر.
وأما ما يعتقده البعض بأنّ الدعاء يردّ القضاء فغير صحيح لأنّ قولهم هذا يؤدي إلى القول بأنّ مشيئة الله تتغير وتغيّر المشيئة دليل الحدوث لأنه لو كان يحدث في الله صفة لم تكن له في الأزل لاحتاج لمن يخصصه بها والمحتاج لا يكوه إلها ومما يدل على أنّ الدعاء لا يردّ القضاء الحديث الذي رواه مسلم وأوّله: "سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة". فلو كان الدعاء يردّ القضاء لكان ردّ بدعاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو أشرف وأفضل خلق الله.
فلمّا يدعو الإنسان ربّه ويتحقق دعاؤه وذلك لأنّ الله شاء تحقق دعائه وإن لم يتحقق فلأنّ الله ما شاء حصوله ويكون له الأجر والثواب بدعائه هذا.
وورد في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه أنّ الله قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: "يا محمد إنّي إذا قضيب قضاء فإنّه لا يرد"، وأما قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فمعناه اعبدوني أثبكم.
وقوله تعالى: { وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } معناه عبادتهم فاسدة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي "ولا يرد القدر شىء إلا الدعاء" وقول ابن عباس الذي رواه البيهقي: "لا ينفع الحذر من القدر ولكنّ الله عزّ وجلّ يمحو بالدعاء ما شاء من القدر" فليس فيه دليل على أنّ الدعاء يغير مشيئة الله إنما المراد به القدر المعلق بمعنى أنه كتب في صحف الملائكة فلان أن برّ والديه يكون عمره مثلا مائة وإن لم يبرّ والديه يكون عمره ستون أو إن تصدق فلان بكذا أو إن وصل رحمه يكون عمره مائة وإن لم يفعل فعمره ستون وما أشبه ذلك فهذا الشىء الذي يحصل لهذا العبد يقال له القضاء المعلق لأنه كتب في صحف الملائكة على وجه التعليق لأنّ هذا التعليق أخذوه من اللوح المحفوظ.
أما الله تبارك وتعالى فهو عالم في الأزل بأن فلانا يفعل كذا ويكون له كذا وشاء له ذلك.
فالشافعيّ رضي الله عنه يقول: "ما شئت" أي يا ربنا "كان"، ما شئت دخوله في الوجود وجد وحصل لا بد.
"وإن لم أشأ" يعني لو لم أشأ أنا العبد. "وما شئت إن لم تشأ لم يكن" المعنى مشيئتك أزلية نافذة لا تتخلف وأما مشيئتي فهي حادثة لأنها لا تحصل إلا أن تشاء أنت في الأزل أن تحصل منّي المشيئة، ثم إمّا أن تتنفذ وإمّا أن لا تتنفذ، وإن تحقق فلأنّ الله تبارك وتعالى شاء في الأزل حصوله وإن لم يتحقق فلأنه تبارك وتعالى ما شاء في الأزل حصول مرادنا الذي تعلقت به مشيئتنا.
"خلقت العباد على ما علمتَ ففي العلم يجري الفتى والمسن" خلقت العباد على ما علمت معناه أنّ الله تبارك وتعالى يبرز عباده للوجود بعد العدم على حسب ما سبق في علمه الأزليّ لا على خلاف علمه الأزلي، لأنّ تخلّف العلم في حق الله تبارك وتعالى مستحيل أي أنّ ما علم الله وجوده لا بدّ أن يوجد وما علم الله أنه لا يوجد لا يوجد. فيستحيل دخوله في الوجود.
"ففي العلم يجري الفتى والسمن" أي أنّ الفتي الذي هو ذو قوة ونشاط والمسن الذي هو ذو عجز وضعف كل منهما لا يحصل منه شىء من الحركات والسكنات والنوايا والقصود والإرادات والسعي للأعمال إلا على حسب علم الله الأزلي.
"على ذا مننت وهذا خذلت وهذا أعنت وذا لم تعن" على ذا مننت أي هذا وفقته للإيمان والهدى والصلاح وعلّو القدر في الإيمان، وهذا خذلت أي هذا ما وفقته فلم يهتدِ للحق ولم يقبل الحق، وهذا أعنت أي أعنته على الأعمال التي ترضيك وذا لم تعن أي والآخر ما أعنته على ما يرضيك فالإعانة على الخير توفيق ومنٌّ وفضل من الله والإعانة على الشر خذلان.
مواضيع ذات صلة
|
|
|
|
|
|