خلق العرش والقلم الأعلى واللوح المحفوظ
بسم الله الرحمن الرحيم
العرش:
قال الله تعالى {وهوَ ربُّ العرشِ العظيم} (سورة التوبة/129) وهو سرير له أربع قوائم ومكانه فوق السموات السبع وهو سقف الجنة منفصل عنها ويدل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسطها وسقفه عرش الرحمن". ثم إن حول العرش ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله سبحانه وتعالى، وهو أكبر مخلوقات الله حجمًا ومساحة وامتدادًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السموات السبعُ معَ الكرسي إلا كحلقة ملقاةٍ بأرضٍ فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة" رواه ابن حبان وغيره. والعرش يحمله أربعة من أعظم الملائكة ويوم القيامة يكونون ثمانية قال الله تعالى: {ويحمِل عرشَ ربّك فوقهم يومئذ ثمانية} (سورة الحاقة/17)، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم أحدَ حملة العرش بأن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام بخفقان الطير المسرع رواه أبو داود.
الحكمة من خلق العرش:
يستحيل عقلاً أن يكون العرش مقعدًا لله فكيف يكون الرب الذي هو خالق للعرش وغيره محمولاً على سرير يحمله الملائكة على أكتافهم، ولا يصح تفسير قول الله تعالى {الرحمن على العرش استوى} (سورة طه/5) بجلس لأن الجلوس من صفات البشر والجن والملائكة والدواب بل معنى قول الله تعالى {استوى} قهر لأن القهر صفة كمال لائق بالله تعالى لذلك وصف الله نفسه فقال: {وهو الواحد القهار} فهذا العرش العظيم خلقه الله إظهارًا لعظيم قدرته ولم يتخذه مكانًا لذاته، لأن المكان من صفات الخلق والله سبحانه تنزه عن المكان والزمان، قال الإمام الطحاوي رضي الله عنه :"لا تحويه (أي الله) الجهاتُ الستّ كسائر المبتدعات"، وقال سيدنا عليّ رضي الله عنه: "إن الله خلق العرش إظهارًا لقدرتهِ ولم يتخذه مكانًا لذاته"، رواه عنه الإمام أبو منصور البغدادي. فالملائكة الكرام الحافون حول العرش والذين لا يعلم عددهم إلا الله يسبحون الله تعالى ويقدسونه ويزدادون علمًا بكمال قدرة الله سبحانه وتعالى عندما يرون هذا العرش العظيم.
القلم الأعلى واللوح المحفوظ:
خلق الله تعالى القلم الأعلى بعد خلق الماء والعرش وهو ثالث المخلوقات، وهو جِرم عظيم جدًّا على شكل نور، ثم خلق الله تعالى بعد القلم الأعلى اللوح المحفوظ وهو رابع المخلوقات، قال بعض العلماء إنه فوق العرش، وقال بعضهم إنه تحت العرش. وجرمه عظيم جدًّا مقداره ومساحته مسيرة خمسمائة عام، طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق والمغرب. وقد أمر الله القلم أن يجري على اللوح المحفوظ فجرى بقدرة الله ومن غير أن يمسّهُ أحد من الخلق وسطر في اللوح المحفوظ كل ما سيكون في العالم حتى نهاية الدنيا، وهذا معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد والترمذيّ عن عُبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوَّلُ ما خلق الله القلم ثم قال اكتب فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة".
والدليل من القرءان الكريم على أن كل شىء كائن في هذا العالم حتى يوم القيامة مسجل في اللوح المحفوظ هو قوله تعالى: {وكلُّ شىء أحصيناه في إمامٍ مبين} (سورة يس/12)، ومن الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "كتبَ اللهُ مقاديرَ الخلائقِ قبل أن يخلقَ السمواتِ والأرضَ بخمسين ألف سنة وكان عرشُه على الماء" رواه مسلم.
خلق السموات والأرض:
خلق الله تعالى بقدرته سبع سموات وسبع أراضي، قال الله تعالى: {الذي خلق سبع سموات ومن الأرضِ مثلهنَّ} (سورة الطلاق/12)، فيجب الإيمان بذلك، فأرضنا هذه واحدة من الأراضي السبع التي خلقها الله تبارك وتعالى وأبدعها.
والسموات التي خلقها الله عظيمة الخلقة تدل على عظمة قدرة البارىء عز وجل، فسمك السماء الواحدة مسافة خمسمائة عام وكلها مشحونة بالملائكة الذين يعبدون الله ويقدسونه ولا يفترون عن ذِكره، وقد ورد أن المسافة ما بين سماء وسماء مسافة خمسمائة عام، وكذلك المسافة ما بين أرض وأرض، فالسموات السبع متراكبة بعضها فوق بعض وكل واحدة منفصلة عن الأخرى وكذلك الأراضي السبع، قال الله سبحانه وتعالى في القرءان: {ألم تروا كيف خلق اللهُ سبع سموات طِباقًا*وجعلَ القمر فيهنّ نورًّا وجعل الشمس سراجًا} (سورة نوح/15-16)، وقال سبحانه: {وبنينا فوقكم سبعًا شِدادًا} (سورة النبأ/16) أي أن السموات السبع شديدة عظيمة الخلقة في اتساعها وارتفاعها وإحكامها وإتقانها.
وقد جاء في القرءان أن خلق السموات والأراضي السبع كان في ستة أيام وكل يوم من هذه الأيام الستة كألف سنة مما نعدّ أي بتقدير أيامنا هذه لقوله تعالى: {وإن يومًا عند ربّك كألف سنةٍ مما تعدّون} (سورة الحج/47)، وقول الله تعالى: {ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسّنا من لغوب} (سورة ق/38) أي تعب وإعياء، وقوله تعالى: {إن ربكم الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} (سورة الأعراف/54)،ومعنى ثم استوى أي وقد استوى على العرش أي أن الله تعالى كان مستويًا على العرش أي قاهرًا له قبل خلق السموات والارض وليس معنى "ثم" في هذه الآية أن استواء الله على العرش أي قهره للعرش حصل بعدما خلق الله السموات والأرض ومن المقرر عند علماء اللغة أن "ثم" تأتي بمعنى الواو وهذا معناها في هذه الآية كم قال الإمام أبو منصور الماتريدي، وما يتصوره بعض الناس من أن الله بعدما خلق الأرض في يومين صعد إلى السموات وخلقها في يومين ثم خلق مرافق الأرض الجبال والانهار والمرعى وءادم في يومي الخميس والجمعة ثم صعد إلى العرش وجلس عليه هذا تحريف للقرءان ووصفٌ لله تعالى بالتنقل وهو محال، أليس ذكر الله في القرءان أن إبراهيم استدل على أن الكواكب والشمس والقمر لا يصلحون للألوهية لكونهم يتنقلون، أليس ذكر الله عن إبراهيم أنه قال: {لا أحب الآفلين} أي أن الذي يتنقل من حال إلى حال لا يصلح أن يكون ربًّا خالقًا.
وكان خلقُ الأرضِ في اليومين الأولين وهما يوما الأحد والاثنين، ثم خلقَ السمواتِ السبعَ في اليومين التاليين وهما الثلاثاء والأربعاء، وأما في اليومين الأخيرين وهما الخميس والجمعة فقد خلق الله تبارك وتعالى مرافق الأرضِ التي يعيش فيها الإنسان من جبال وأنهار ووديان وأشجار وما أشبه ذلك، ولقد كان بدءُ خلق الملائكة في تلك الأيام الستة وكذلك خلق إبليس اللعين الذي هو أبو الجن، وأما سيدنا ءادمُ عليه السلام الذي هو أبو البشر وأول الأنبياء فقد خلقه الله تبارك وتعالى في ءاخر اليوم السادس وهو يوم الجمعة الذي هو أفضل أيام الأسبوع فكان ءادم ءاخر أنواع العوالم التي خلقها الله تبارك وتعالى، روى مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيرُ يومٍ طلعت عليه الشمسُ يومُ الجمعةِ فيه خُلق ءادمُ وفيه أدخل الجنّة وفيه أخرج منها"، ويعني ذلك أن تمام خلق ءادم كان في الجنة لأن بدءه التربة التي نقلت من الأرض إلى الجنّة فعجنت هذه التربة بماء الجنة ثم مكث طينًا أربعين يومًا ثم جعله صلصالاً كالفخار ثم حوّله عظمًا ولحمًا ودمًا ثم نفخ فيه الروح الطيبة الكريمة عند الله، وهذا معنى قول الله تعالى: {فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي} أي الروح التي هي ملك لي ومشرفة عندي.
ومما يدلّ على ما قدمناه قوله تعالى: { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} (12) (سورة فصلت).
فالله سبحانه وتعالى أخبر في هذه الآيات أنه خلق الأرض أولاً في يومين لأن الأرض كالأساس، ثم خلق بعد ذلك السماوات في يومين وهي الكسقف بالنسبة للأرض قال الله تعالى: {وجعلنا السماء سقفًا محفوظًا وهم عن ءاياتها معرضون} (سورة الأنبياء/32)، وقال الله تبارك وتعالى: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهنّ سبع سموات وهو بكل شىء عليم} (سورة البقرة/29).
ومعنى قوله تعالى: (ثم استوى الى السماء) 29 سورة البقرة. أي اتبع ذلك بخلق السماء، اي خلق الارض ثم الحق السماء بالارض، وبعضهم يقول: "استوى" قصد، لكن هذه فيها ما فيها لأنها توهم أن مشيئة الله تتجدد وهذا محظور باطل، مشيئة الله واحدة ازلية ليس له مشيئة بعدد المخلوقات.
وخلق الله الشمس والقمر وسائر النجوم قال تعالى: {ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقًا*وجعل القمر فيهنّ نورًا وجعل الشمس سراجًا} (سورة
نوح/15-16)، وقال تعالى: {إنَّا زيّنا السمآء الدنيا بزينة الكواكب} (سورة الصافات/6)، وقال تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
(سورة الأعراف/54).
أما دحو الأرض فكان بعد خلق السموات وكان ذلك في اليومين الأخيرين من تلك الأيام الستة قال الله جلت قدرته: {ءأنتم أشدّ خلقًا أم السماء بناها*رفع سَمكها فسواها*وأغطش ليلها وأخرج ضحاها*والأرض بعد ذلك دحاها} (سورة النازعات/27-30).
ومعنى دحاها أي وسعها وجعلها صالحةً للسكن بأن أجرى فيها الأنهار والوديان والينابيع قال تعالى: {أمَّن جعل الأرض قرارًا وجعل خلالها أنهارًا}، وجعل الله الجبال رواسي قال تعالى: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} (سورة النحل/15)، وقال تعالى: {والجبال أرساها} (سورة النازعات/32)، وخلق الله البحار قال تعالى: {وهو الذي سخّر البحر لتأكلوا منه لحمًا طريًًّا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} (سورة النحل/14) فسبحان الله المتفضل المنعم.
فائدة: الحكمة من خلق السموات والأرض في ستة أيام مع أن الله جلت قدرته قادرٌ على خلقها في أقلّ من ذلك تعليم الناس التأنيَ في الأمور والتروي وعدم الاستعجال. وأما قوله تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} (سورة يس/82) فليس معناه أن الله خلق الخلق في لحظة، إنما معناه يخلق العالم بدون تعب ومشقة وبدون ممانع يمانعه وبدون تأخر عن الوقت الذي أراد وجوده فيه، وليس معنى {أن يقول له كن فيكون} أنه كلما أراد أن يوجِد شيئًا من مخلوقاته يقول له "كن" أي بهذه الكلمة المركبة من كاف ونون وهذا غير معقول لأن الله يخلق في اللحظة الواحدة ما لا يدخل تحت الحصر فكيف يعقل أنه ينطق بعدد كل ما يخلق بهذه الكلمة كن باللغة العربية والله تعالى كان قبل اللغات، إنما هذا عبارة عن إيجاده تعالى الأشياءَ بدون تعب كما أن الإنسان يكون أسهل شىء عليه التلفظ بكن لا يعاني منه مشقة، فالله تعالى ذكر هذا تفهيمًا للمعنى لإفهام الخلق، قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: "القرءان امثال ومواعظ" أي ليس كل القرءان على ظواهره. والحمد لله رب العالمين.
----------------------------
مواضيع دينية
مواضيع ذات صلة
|
|
|
|
|
|